فيلم الأرض.. واقعية تعبيرية تحتفي بالمكان وبالفلاح الثائر

عدن لنج_طاهر علوان

هي سيرة الأرض والإنسان، تلك العلاقة الإشكالية المعقدة، وبما في ذلك التمسك بالجذور وبالنشأة الأولى. من هنا يمكن أن ننطلق في قراءة تلك التراجيديا التي ينطوي عليها الصراع على الأرض حتى تكتسب قيمة رمزية وجمالية وسيتفرع عنها نوعان من الثقافات هما ثقافة الزمان وثقافة المكان.

واقعيا، وبحسب العالم المكاني الشهير إدوارد هال، فإنه يحيل ثقافة المكان إلى القرية ويحيل ثقافة الزمان إلى المدينة بسبب دخول الساعة وسيطرة الزمن والآلة والماكنة والتطور الصناعي وما إلى ذلك من علامات بارزة. من هنا، نتوقف عند محور ثقافة الأرض فإن هنالك دائرة متكاملة تبدأ من العلاقة بالمكان وكيف تبدو ظاهريا وعمليا، وإلى أي مدى يتفاعل الكائن جغرافيا ويهندس بيئته المكانية.

في فيلم “الأرض” للمخرج المصري يوسف شاهين الذي تم إنتاجه في العام 1970 هنالك غزارة في مجمل هذه الثقافة المكانية ووجدنا أن تفسيرها وقراءتها والعيش فيها تتباين بين الشخصيات ما بين الانجذاب وبين الحيادية أو السلبية. ويمكن أن نقسّم الشخصيات الرئيسية في هذا الفيلم وفق هذه المعطيات في تبسيط دال على الإشكالية التي نحن بصددها، والتي يحتل فيها المكان محورا أساسيا ابتداء من اسم الفيلم وانتهاء بالجغرافيا المسيطرة على أحداثه.

ولا تبقى للمكان في هذا الفيلم قيمته الرمزية المجردة بالتوازي مع استخدام الشعارات والأناشيد الحماسية، بل تتعدى ذلك إلى قيمة الصراع التي يشهدها.

إذا مضينا في التركيز على المدخل المكاني لفيلم “الأرض” والقراءة المكانية لأحداثه فإننا نجد أن الشخصيات الرئيسية ابتداء من محمد أبوسويلم (قام بأداء الدور محمد المليجي) ومرورا بعبدالهادي (عزت العلايلي) ومحمد أفندي (حمدي أحمد) وعلواني (صلاح السعدني) ووصيفة (نجوى إبراهيم) ودياب (علي الشريف) وغيرهم، كلهم قد غادروا المكان الأكثر ارتباطا بهم وانصرفوا إلى المكان العام وهو الأرض، إذ سرعان ما يلتحمون ويتواجدون على أرض مشتركة وقلما ظهروا في أماكنهم الأكثر خصوصية، وهو تمايز مهم في هذا الفيلم ما بين المكان الخاص والعام.

ولعل من المعطيات الأخرى التي منحت الفيلم تلك القوة التعبيرية هي العناية بتفاصيل المكان واستخداماته كالأنهار والأراضي المزروعة ودكان الشيخ يوسف والترعة التي تشهد سقوط البقرة ثم إنقاذها، وكذلك تشهد اغتيال خضرة كما تشهد الإجهاز على مشروع الحكومة بسد الترعة بقطع الحديد.

عمل يحتل صدارة أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، تكامل فيه النص المحكم بالمعالجة السينمائية
يوسف شاهين قدم معالجة درامية للأرض وللنسيج الاجتماعي


وإذا راجعنا متانة السرد الفيلمي فإن تلك المراجعة سوف تحيلنا إلى الرواية البارعة التي كتبها المؤلف المصري القدير عبدالرحمن الشرقاوي (ولد في العام 1921 وتوفي عام 1987)، وهو الروائي والناقد والمسرحي الذي أتحف المكتبة المصرية والعربية بأعمال خالدة مثل “الشوارع الخلفية” و”القلوب الخالية” ومسرحيات مأساة جميلة والفتى مهران والنسر الأحمر وأحمد عرابي والحسين ثائرا والحسين شهيدا، وهو بالإضافة إلى ذلك من المشاركين في كتابة سيناريو فيلم “الرسالة” للمخرج الراحل مصطفى العقاد إلى جانب توفيق الحكيم وعبدالحميد جودة السحار.

أما رائعته رواية “الأرض” فقد بدأ نشر فصولها في صحيفة المصري في مطلع الخمسينات، ثم نشرها كاملة في كتاب صدر في العام 1954 وتعد واحدة من أرفع ما أنتجه الأدب المصري الحديث من روايات تناقش قضية الأرض والإنسان وصورة الفلاح في الأدب.

قام الراحل حسن فتحي بكتابة السيناريو، وتحسب له إعادة تركيب الرواية سينمائيا وبنائها سرديا بشكل منح لشخصية محمد أبوسويلم ثقلا دراميا كبيرا من خلال تفعيل شخصية الفلاح الثائر الذي لا يجد حلا في مواجهة الآخر، وخاصة السلطات، إلا المواجهة.

برزت شخصية محمد أبوسويلم لتتكامل مع شخصيات رئيسية ويتفرع بموجب ذلك السرد الفيلمي بحسب موقع كل شخصية في البناء الدرامي، ومن ذلك العلاقة الطيبة مع عبدالهادي ومع دياب ومع علواني ومع جميع “الحمائم” التي تتماهى مع طبعه المتفجر. لكن تلك العلاقة ستتحول إلى سجال شرس مع “الصقور” الذين يمثلون رموزا في القرية كالشيخ حسونة وحمودة والشيخ يوسف والعمدة، وتجلى حضورهم في مشهد ألقى فيه أبوسويلم خطبة عصماء وحوارا وضع فيه النقاط على الحروف ووضع كل شخصية متخاذلة في مكانها.

تختصر حكاية الرواية/الفيلم من خلال سطوة نظام الحكم المستبد على مقدرات الناس ويتجلى ذلك هرميا حتى نصل من أعلى هرم السلطة إلى مستوى القرية الصغيرة النائية التي يطالها ما يطال قرى أخرى وحواضر ومدنا من تعسف وتسلط.

والشرارة البسيطة التي تشعل كل تلك الدراما هي عمليات السقي كل خمسة أيام لحقول القطن التي تمدّها السلطات إلى عشرة أيام تعسفيا، تمهيدا لتمدد مشاريع الإقطاع والبورجوازية الصغيرة وتاليا الاستحواذ على أراضي الفلاحين بعد سحقها وتمدد الإقطاع عليها وذلك هو محور قصة الفيلم الأساسية.

على هذه الأرضية ستبرز الشخصية الثائرة ممثلة في محمد أبوسويلم الذي يكمله في ذات الشراسة الثورية عبدالهادي الذي يعشق ابنته ويجمع بينهما ما يشبه الحب العذري للثوار.

وبسبب الزخم الذي امتلكته شخصية الفلاح الثائر فقد اتضحت سريعا فضائحية الانتهازية السياسية في تخلي الرجل القدوة، الشيخ حسونة (قام بأداء الدور الممثل يحيى شاهين) وتآمره على قضية سبق وأن تعرض إلى السجن بسببها.

وكذلك تخلي الشيخ يوسف وانتهازية محمد أفندي والعمدة (الممثل عبدالوارث عسر)، لنصل إلى محمود بيه الذي يمثل تلك الطفيلية النفعية التي تتكئ على النظام الجائر وتستثمر فيه وهو الذي سوف يحرك بطش الحكومة وقوتها الغاشمة لسحق إرادة الفلاحين وزعيمهم أبوسويلم.

القمة الدرامية التي نحن بصددها في هذا الفيلم تتمثل في قدرة أبوسويلم على استحضار قيم رفيعة وسامية ورموز تمس الكرامة الشخصية، إذ أنه وهو المشارك في ثورات وانتفاضات الشعب المصري وذاق مرارة الاعتقال والتعذيب، اكتشف حقيقة تلك السلطة الغاشمة وتمثل تلك الرموز بمصداقية بعيدة عن الشعاراتية والانتهازية وهو مرض الثوار في كل زمان ومكان.

وإذا عدنا إلى هيكلية البناء الدرامي ورمزية الأرض فإننا سوف نجد تأسيسا متميزا لتلك العلاقة الإشكالية حتى تتحول الأرض إلى وظيفتين أساسيتين في هذه الدراما. الوظيفة الأولى هي كونها حاضنة لمن يحمل راية التمرد والثورة والانتفاضة على السلطات الغاشمة والمتسلطة. والوظيفة الثانية كونها سببا ودافعا للثورة، ويغدو الدفاع عنها مهمة وأولوية.


ولنعد إلى الأسلوب الذي تم من خلاله بناء تلك الوحدات الدرامية التي أججت الأحداث، فمما لا شك فيه أننا أمام استمرار متين للواقعية التي سادت أفلام الخمسينات والستينات مع صعود المد القومي والتشبع بالشعارات القومية وعلى خلفية الصراع العربي- الإسرائيلي الذي يشكل الصراع على الأرض المحتلة محوره الأساس.

الواقعية التي طبعت فيلم الأرض تميزت بكثافة درامية وصعود مطرد لقوى الصراع، وصولا للمواجهات الدامية وبما فيه هجوم أجهزة الشرطة على السكان المدنيين من الفلاحين البسطاء وترويعهم، وصولا إلى الذروة الدرامية الفريدة الممثلة في سحل محمد أبوسويلم في واحد من أكثر المشاهد قوة وتأثيرا في مسار المخرج يوسف شاهين ومسار السينما المصرية والعربية بشكل عام.

كانت تلك الواقعية امتدادا لمسار يوسف شاهين (1926-2008) بعد أن كان قد أنجز أكثر من عشرين فيلما روائيا قبل فيلم الأرض، من أبرزها أفلام “صراع في الوادي” عام 1954 و”صراع في الميناء” 1956 و”جميلة” و”باب الحديد” 1958 و”الناس والنيل” 1968، وغيرها من الأفلام التي تشبع من خلالها شاهين بذلك النوع من المعالجات الدرامية الواقعية التي تعطي أهمية للشخصية الدرامية وللنسيج الاجتماعي وللتكامل في عناصر ومكونات المكان.

ويلفت النظر خلال ذلك إشباع المَشاهد بكم وافر من التفاصيل، إذ جرى مسح المكان وبناؤه بصريا بشكل لم يغادر الطابع الواقعي، وفي الوقت نفسه تم التوقف عند كل مفردة من مفردات المكان ومنحها مساحة كافية في النسيج البصري للفيلم.

ويبرز هنا دور مدير التصوير المبدع محمد بكر الذي أجاد إدارة ذلك التنوع البصري والمكاني وواكب التحوّلات الدرامية بإتقان.

ولا شك أن هذا النوع من الغوص في المكان هو الذي منح ذلك الإحساس العميق والمؤلم بالتمايز الطبقي ما بين الفلاحين والأثرياء، وخاصة حياة محمود أفندي التي تزخر بالرفاهية وهو يقيم على تخوم مساحات العطش والحرمان.

تختصر حكاية الفيلم من خلال سطوة الحكم المستبد على مقدرات الناس وتتجلى من أعلى هرم السلطة إلى مستوى القرية النائية التي يطالها ما يطال قرى أخرى من تعسف وتسلط
عمل يحتل صدارة أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، تكامل فيه النص المحكم بالمعالجة السينمائية
هذا التمايز الطبقي على الرغم من سكونه وعدم ملاقاة أبوسويلم لرأس البرجوازية الانتهازية والطفيلية، إلا أن تأثيراته بدت واضحة من خلال تخاذل الشيخ حسونة والمشاهد التي جمعت محمود بيه مع العمدة.

وإذا مضينا في هذه الخلاصات التعبيرية التي حفل بها الفيلم فسوف نحلل ولو بإيجاز صورة المدينة في مقابل تلك القرية المضطهدة الثائرة. فالمدينة لم تكن بالنسبة لرموز القرية إلا مخادعة كبرى، فقد تم خداع محمد أفندي بجمع التواقيع التي تتيح للسلطات السيطرة على أراضي الفلاحين، ومن جانب آخر كانت المدينة هي السجن الكبير الذي يبتلع المنتفضين ويجري تعذيبهم وإذلال كرامتهم كما جرى في واقعة سجن وتعذيب أبوسويلم ودياب وعبدالهادي.

وما عدا ذلك فإن المدينة مجهولة تماما والقوى الفاعلة فيها منقسمة ما بين سلطات غاشمة وبين منتفضين، وهو ما تجلى من خلال الزيارة الهامشية لمحمد أفندي لخاله حيث وجد نفسه في وسط المظاهرات والضرب بالعصي.

أما إذا عدنا إلى صورة الإذلال والتصدي للفلاحين فلا شك أن زج الهجانة الذين يتعاملون بقسوة مع الفلاحين من خلال مشاهد الجِمال التي يمتطيها رجال النظام والسلطة أشعر الآخرين بصورة أخرى من صور البطش الذي يمكن أن يمتد من العاصمة إلى أقصى نقطة في الريف، وهو ما زاد من سخط السكان ورفضهم الإسراف في الظلم الذي ظلوا يتعرضون له.

وعلى صعيد العلاقات الإنسانية، برزت علاقة عبدالهادي مع وصيفة، فالاثنان يرتبطان بشخصية أبوسويلم وكل منهم يتمثل شخصيته بشكل ما، حتى أن عبدالهادي مع فرط تعلقه بوصيفة إلا أنه بقي محافظا على مسافة معها لكي لا يخدش أصل علاقته مع رمزه أبوسويلم.

وفي المقابل تم رسم شخصية وصيفة بعناية لمنح الشخصيات النسائية، بالإضافة إلى خضرة والأخريات، بعدا إنسانيا في ظل أنوثة مسحوقة في مقابل رجولة تواجه تحديات السلطة، ومثال ذلك تراجيديا مقتل خضرة التي قدمت صورة تمايز طبقي وإنساني داخل المجتمع الريفي نفسه برفض دفن خضرة في مدافن القرية بسبب اتهامها بسوء الخلق.

ومما يتداول عن خلفيات هذا الفيلم دور الراحل كرم مطاوع فيه، فقد عرف عنه مواكبة الإعداد للفيلم منذ المراحل الأولى وأنه هو صاحب فكرة سحل محمد أبوسويلم في ختام الفيلم وأنه انسحب من الفيلم بعد أن رفض أن يسند إليه موقع مخرج منفذ للفيلم، وهو الذي كان يريد لنفسه دور مخرج الفيلم إلى جانب يوسف شاهين.

وفي الجانب الصوتي والحوار والموسيقى فلا شك أن مشاهد حوارية مهمة بقيت راسخة في أذهان الجمهور مثل حوار أبوسويلم مع وجوه القرية وفضح أهم رموزهم، بل إن مجمل حوارات أبوسويلم والشيخ حسونة والشيخ يوسف تميزت بالتماسك وقوة التعبير.

وأما على صعيد الموسيقى فقد كان توظيف الفرقة السيمفونية المصرية بقيادة علي سالم قد أعطى زخما تعبيريا إضافيا للفيلم بالإضافة إلى اللازمة الممتعة “أرضنا العطشانة، نرويها بدمانا”.

لا شك أن فيلم الأرض يستحق أن يحتل موقعه في صدارة أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية كما يجمع على ذلك العديد من النقاد والمؤرخين للسينما المصرية، فهو فيلم تكاملت فيه عناصر النص المحكم والمعالجة السينمائية والبناء الدرامي والسردي فضلا عن تجسيد أدواره من خلال نخبة من أهم ممثلي السينما المصرية