سوق الخياطين أو كما يطلق عليه في تهامة "المبزاز"، هو سوق تاريخي عريق للأزياء المحلية التهامية، يتوسط قلب مدينة حيس التاريخية في جنوب الحديدة، وهو أحد أقسام السوق القديمة لهذه المدينة، ولا يزال يحتفظ بخصوصياته وجمالياته الفريدة إلى الآن.
مع الوضع الاقتصادي المتدهور في البلد جراء الحرب الحوثية العبثية، انعكست آثاره السلبية بالمتغيرات على واقع الحياة، خصوصا على الأسواق الشعبية التهامية القديمة التي لا تزال تقاوم للبقاء وتواجه عقود الزمن لتحافظ على نكهتها الفريدة التي يفوح من بين جنباتها عبق التاريخ.
لم يكن المبزاز مجرد سوق للعبور، بل هو معرض ثابت ومتحف دايم مفتوح للأزياء المحلية والشعبية فضلاً عن الحديثة منها، يمَارسُ فيه عدد من الأنشطة ومتعلَقاتها لمناسبات مختلفة، العيدية الدينية والاجتماعية الخاصة وكسوة العرائس، وتوجد فيه الخياطة والتطريز.
سوق عريق
وهذا السوق التاريخي مقصد رئيس للكسوة وللباحثين عن الملابس، فالزائرون له يجدون بغيتهم من ملبوسات خياطات ومطرزة ومصبوغة ذات الخصوصية المحلية التهامية. ويشكل بمفرده طابعاً تهامياً أصيلاً يحكي ماضيا يسكن في أعماق ووجدان الأهالي الذين يحتفظون بحكايات تاريخية عن أحداث شهدها السوق.
الحاج صالح عُكيش، مالك محل لبيع الأقمشة في المبزاز، تحدث مع "نيوزيمن" عن خصوصية السوق وطبيعة الطقوس المعتادة قائلاً: نبدأ بالعمل فيه من بعد صلاة الفجر، وكل شيء متوفر من جميع أنواع الأقمشة والمطرزة والناس يأتون من كل مكان للشراء، ولكن الآن الحركة أصبحت خفيفة، والغلاء لعب دورا كبيرا، ليس كما كان سابقاً قبل الحرب.
وبالقرب من محله القديم الذي يفوح منه عبق الماضي، وتحيط به أنواع من الملبوسات المعروضة على حائط محله وعلى أبوابه الخشبية العتيقة، يستذكر الحاج عُكيش، ماضيا كان يراه جميلاً تأثر بفعل من أشعل الحرب في البلاد التي تدخل عامها التاسع، بالقول: "أنا أعمل في هذا المحل من صغر سِني مع والدي -رحمه الله، وكُنا نطلب الله (نعمل) في أمن وأمان ورخاء واستقرار، خصوصاً يوم الإثنين موعد السوق الأسبوعي لمدينة حيس المعروف بيوم الوعد، الذي يكتظ بالزائرين ومن شدته لا تستطيع المشي من كثرة الازدحام في ظل توافد المواطنين من مرتادي المبزاز، من داخل المدينة وخارجها".
مختتماً حديثه بالقول: الأسعار كانت طيبة والناس طيبين في خير وبركة، هذا الوقت أحنا عايشين في جحيم.
دهشة كبيرة
عند دخولك لسوق الخياطين "المبزاز" قد تأسرك الدهشة وأنت تسمع صوت مكائن الحياكة والخياطة وغالبيتها تعمل بالأساليب القديمة. وكلٌ منهم يحاول أن يبدع في حياكته ومصنوعاته، في مشهد يوضح شغف كاسبي المهنة ومتوارثيها المتعاقبين جيلاً بعد جيل, في صمود لافت يعكس تماسك أبناء السوق على عكس سواهم من الحرف التي تأثرت سلباً نتيجة التدهور الذي شمل كل شيء حولهم تقريباً.
يقول عبدالرحمن حمنه، أحد أبناء حيس وممن يقصدون السوق لشراء الملبوسات: "المبزاز هو السوق الرئيسي لنا للكسوة، وهذا قديم من يوم وأنا أعرف نفسي حوالي 60 عاما وأنا أعرف هذا السوق بنمطه القديم".
مؤكداً أن الزائرين يأتون إليه من جميع الأرياف في مديريات: حيس والخوخة وشمير مقبنة ونواحيها وجبل رأس ومناطقها الجبلية، وكلهم يقومون بشراء، ما يحلو لهم من ملابس وأقمشة سواءً للرجال أو للنساء، لا سيما أيام عيدي الفطر والأضحى، والمناسبات الدينية الفضيلة مثل: ليلة البهجة والرجبية اللتين يحتفي بهما أهالي حيس كمناسبات دينية متوارثة كغيرهم من المناطق التهامية.
تدهور اقتصادي وأمني
ولعب التدهور الاقتصادي والأمني دوراً كبيراً في سوق المبزاز وأصبح ظاهراً في بعض أنحائه، وهو أمر ضروري يستدعي الاهتمام اللازم من الجهات المعنية للحفاظ على مكانة المبزاز التاريخية.
ورغم كل هذا إلا أن أصحاب المحلات يبذلون جهوداً ذاتية، لإحياء أماكنهم في سوق المبزاز، رغم الظروف الحاصلة، كنوع من الوفاء نظراً لما يعني لهم من قيمة مادية ومعنوية في وجدانهم.
يقول الباحث والكاتب المؤرخ اليمني الأديب عبدالجبار نعمان باجل، وباعتباره أحد أبناء حيس: إن منظر ومظهر المبزاز أصبح اليوم لا يسر قاصديه نتيجة غياب بعض المنتجات، خصوصاً وأن أصحاب المحلات هجروا عددا من الحرف التي كانوا يتميزون بها في التصنيع، مثلاً صناعة الملابس بالصبغات السوداء المصنوعة من شجر النيل والتي يطلق على ملابسها بالمُصَبغ.
وأوضح المؤرخ باجل، إن المبزاز كان قديماً أحد المراكز القوية الذي كان يصدِّرُ المنتجات إلى الساحل الشرقي لإفريقيا المطلة على البحر الأحمر، حتى أن التجار كانوا يستوردون بعض احتياجاتهم اللازمة من الهند لتصنيع الملابس والأقمشة الفاخرة خصوصاً وأن حيس كان لها باع طويل وصيت مسموع ومشهور آنذاك في الإنتاج المحلي، وكونها أيضاً تميزت في صناعة الحصير الذي كان يُصَدَّر إلى مكة المكرمة وبعض دول الجوار، بحسب ما ورد في العديد من المصادر التاريخية.
قيمة تاريخية
وأكد أن الحال الذي وصل إليه سوق البَز او المبزاز يعتبر "جرحا في حيس التاريخية ودمعة على خدها"، مشيراً أنه في أمس الحاجة للاهتمام وإعادة تأهيله، داعياً المعنيين والسلطة المحلية في المحافظة والمديرية بالقيام بواجبها تجاه سوق المبزاز نظراً لما يتمتع به من قيمة تاريخية منذُ القدم ومصدر اقتصادي لأصحابه ومرتاديه.
وهكذا عرفت مدينة حيس التاريخية أقدم حواضر تهامة المشتق اسمها من القيل الحميري "حيس بن يريم الحِميري" فكلما طرقت نافذةً من نوافذها التاريخية وجدت فيها ملمحاً يدعوك للدهشة والتفكر في الإبداعات التاريخية النابعة من القيم المعرفية الأصيلة بأبنائها ولمن تَديَّرَها وسكن فيها.