نعم..رحل فجأة فجر اليوم، أحد أعز وأحب الناس وأقربهم إلى قلبي.. صانع الابتسامة الدائمة والوجه البشوش..أحمد صالح دوش، الذي لم يعرف التذمر طوال حياته ولم يجد اليأس إلى قلبه طريقاً..حتى في أصعب الظروف..
أي حزن هز كياني، في موسم الرحيل هذا الذي تتوالى فيه الأحزان لفقدان الأحبة..وأنا أقرأ نبأ رحيلك، هالني الخبر، وزلزل كياني..وفي كل حرف تطالعني صورتك البهية بإبتسامتك المعهودة.. وتساءلت عن كنه الموت وحضوره المباغت ولماذا ينتزع فجأة من نحبهم؟!.. آه..يا أحمد.. كيف لنا أن نجتمع بدونك يا عاشق الابتسامة والمتسامح الودود ..ومن سيعوضنا عن حضورك البهي وحكاياتك التي تخلط فيها الجد بمسحة فكاهية، تنتزع ابتسامتنا رغم سخريتها أحياناً بل وقسوتها..
أحمد صالح أحمد سالم الخلاقي، الشهير بـ(أحمد دوش)، من أحب وأقرب الناس إلى قلبي، ليس فقط لصلة القرابة التي تربطنا، فأنا ابن خاله وهو ابن عمتي، ولكن لأنه إنسان حوى قلبه الكبير كل محاسن ولطف وتسامح البشر وطيبتهم.. وهو شخصية اجتماعية مرحة ولطيفة ومن أطيب خلق الله في خلاقة ويعرفه الجميع صغارا وكبارا ليس فقط في مسقط رأسه (خلاقة) بل وفي محيطها المجاور، وفي المهجر الذي انتزع معظم سنوات عمره، مجاهداً منذ شبابه المبكر، ومنذ وعيت نفسي، لتوفير لقمة العيش الكريمة لأسرته ولأخوانه الصغار.. إذ عز عليه أن يظل والده ينحت في الصخر، في مقالع الحجارة وقرر مساعدته فغادر إلى المهجر في شبابه المبكر وعمل واجتهد على مدى أكثر من ستىة عقود قضاها في مهجره في أعمال عضلية شاقة من أجل أن يسعد والده ويعوضه عن سنوات النحت في الحجارة الصماء ويوفر لقمة العيش لأخوانه الصغار، ثم أولاده بعد ذلك..
وكان والده شاعراً مجيداً، لا يخلو شعره من الطرافة ، وكانت مراسلاته لأبنه أحمد في مهجره ترسل شعراً، ويلمح لابنه فيها تلميحاً عندما يحتاج للمال فتأتيه البشارة من ابنه في المهجر، على لسان "الحليلة" قائلة له:
أحياك يا صالح أحمد ما يهز الهلول
مِرثاة حالي لحالك كم بحالك شغُول
رَعني بشيره من ابنك با يجيك القبول
وا يحفظه ذي حفظ يوسف بجاه الرسول
ومن طريف شعره هذه الأبيات التي أرسلها لنجله الأكبر أحمد في مهجره بالسعودية، في مدينة الرسول المنورة، يصف فيها التيس الذي نحره، ضحية العيد، وثمنه المرتفع حينها (200شلن) في ثمانينات القرن الماضي، يقول:
أبو علي قال شل الخط مني تروس
واجزع في العر وأيْهر ذي طريقه نكوس
روّح عدن صل لك في مسجد العيدروس
خطي أمانه يصل درب المدينه تروس
مدينة النور ذي فيها الرضا والأنوس
ولأحمد ابني سلامي ما تهز النَّسوس
ومية مليون ذي للرَّبع عنده جلوس
وقل وصلنا كساكم من خيار اللبوس
وتعلم إنِّي من الأحْمَال ظهري دحُوس
وعيدنا تيس والله ما رُبِي بالتيوس
صغير لا قرن طلَّع به ولا به ظروس
خذته بميتين وأمسى خاطري ذي يكُوس
الله يصيب المُثمن ما يهم الفلوس
الهال سينا ملا قصعه ترسها تروس
ونُص صيني سِلِهْ للضيف لا جاء غلوس
وأمسيت خزِّن بقات أجرد وسُكَّر نقوس
وقلت عافى لي أحمد ما بقلبي هجوس
حماكم الله وأعيانه عليكم حروس
وحتى في غربته التي عاش خلالها أحمد دوش ، مثله مثل زملائه المغتربين، في سكن جماعي (عُزبة) مع عدد من الأقارب والأصحاب كان دائماً بمثابة الأخ الأكبر لهم، ويلجأون إليه في حل خلافاتهم ومنازعاتهم التي قد تحدث أحياناً بينهم لما حظي به من حب وتقدير واحترام الجميع، ولوقوفه مع الحق في أي خلاف.. وحين يشتد الخلاف بينهم يكون هو المرجعية ويقبل بحلوله الجميع بقناعة ورضا، أما حين يتعصى بعضهم لأي سبب ويشتبك مع غريمه فكان هو أيضاً من يفض الاشتباك، ومن لا يستجيب كان يردعه بقوته الجسدية، ولا يغضب منه أحداً لأنه يقف مع صاحب الحق..وهذا ما رواه كثيرون ممن عايشوه في غربته..
امتلك أحمد دوش، رحمه الله، قلباً كبيراً لم يحمل سوى الود والحب للناس ، وظل طوال حياته يقابل الجميع ببشاشته وابتسامته العريضة وبأحاديثه اللطيفة والطريفة المحببة إلى نفوس من يحيطون به في لقاءاتهم صغاراً وكباراً..وأينما توقف أو جلس تجده يجتذب المحبين والمعجبين ممن يتحلقون حوله صغارا وكبارا للاستماع والاستمتاع بطرائفه وأحاديثه التي تخرج بتلقائية من القلب وتثير أجواء من المرح والضحك.
سأله ذات يوم ، قبل بضع سنوات، الأخ أحمد جبران (أبو صلاح) عن تحليله للأوضاع التي تمر بها منطقتنا..فأجاب بلغة لا تعرف اللف ولا الدوران وبكل شفافية وبلهجته البافعية :(القوي يقني الضعيف).. وكلمة(يقني) يمكن فهمها بسهولة من معنى النص لمن لا يعرف اللهجة اليافعية...وأظنه لم يكن مخطئاً..وما زال الوضع كذلك حتى اليوم.
وداعاً صانع الابتسامة الدائمة والوجه البشوش..أحمد دوش..
وتظل حاضراً في قلوبنا وفي مجالسنا بسيرتك العطرة وذكرك الطيب..طيّب الله ثراك..والجنة مثواك..وألهمنا الصبر والسلوان.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.