الباحث الأمريكي فلاك ميلر والصدى الأخلاقي لظاهرة أشعار الشريط التسجيلي في بلادنا

 

صدر مؤخراً عن مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر كتاب الباحث الأمريكي المتخصص في الأدب الشعبي المقارن أ.د.فلاك ميلر "الصدى الأخلاقي لوسائل الإعلام العربية- شعر الشريط والثقافة في اليمن"، بترجمته العربية. والكتاب هامٌ في محتواه وجديدٌ في موضوعه، وهو حصيلة جهود متواصلة على مدى أربع سنوات قضاها الباحث في بلادنا، وخاصة في يافع، منذ قدومه منتصف تسعينات القرن الماضي في منحة بحثية لدراسة الشعر الشعبي اليمني. 

قادته الصدفة إلى بلاد يافع، فاستأثرت بمعظم وقته وحط رحاله فيها بعد أن وجد فيها ضالَّته البحثية لما تزخر به من تراث شعري لم يحظَ بالدراسة بعد، مقارنة بحضرموت التي كان يخطط للاتجاه إليها. ولعل ما شدّه وحَرَفَ مساره إلى بلاد يافع هو شهرة وانتشار أشعار أشرطة الكاسيت التي لفتت انتباهه برواجها وانتشارها على نطاق واسع وهي تصدح بأشعار الشعراء الشعبيين المشهورين ومساجلاتهم الشعرية ويتلقفها الناس بكل حماسة وتلهف لكل جديد.

 وهكذا كان فلاك ميلر أول باحث أجنبي يتوغل في مرتفعات يافع منذ وصوله إليها عام 1995م وقضى فيها عدة سنوات متنقلاً بين مناطقها يستكشف موروثها الشعري من أرض الواقع، وقد حظي بترحاب وتعاون كبيرين من لدن شعراء يافع وغيرهم في كل المناطق التي زارها وكوّن فيها صداقات وعلاقات مع الشعراء والشخصيات الاجتماعية والمهتمين بموضوع دراسته من الأكاديميين والمهتمين، الأمر الذي مكنه من الإلمام بلهجة البلاد، ومشاركة الناس مجالسهم ولبس زيهم التقليدي، وكأنه واحدٌ منه، مما مكنه من الغوص والتعمق في انجاز بحثه الموسوم "الصدى الأخلاقي لوسائل الإهلام العربية- شعر الشريط والثقافة في اليمن". 

 يقدم الكتاب اتجاهاً موثوقاً للإبداع السياسي العربي محوره الأساسي المساجلات والمبارزات الشعرية التي وظّفت تقنية وسائل الإعلام ، خاصة تقنية التسجيل الصوتي، ممثلة بأشرطة الكاسيت، لصياغة سلطة أخلاقية في أوساط المتلقين للإنتاج الشعري الذس يقدم بأصوات مطربين محليين أسهموا في تقديم الأشعار والمساجلات بقالب فني جذاب حقق رواجاً في مناطق واسعة، وأصبح شريط الكاسيت الوسيلة المثلى لعشاق الشعر الذين يتابعون كل جديد من خلاله مع الاستمتاع بالكلمة واللحن بأصوات المطربين الشعبيين.. ووضع المؤلف نصب عينيه دراسة الشعر الشفهي المتناقل والمصحوب بالغناء والموسيقى كأساس لهذا الكتاب من خلال غوصه في عمق انتاج الشعراء الشعبيين ، مفنداً العلاقة الحميمة بين أشكال الووسائل الثلاث:الشفهية الارتجالية، والكتابية، والصوتية المسجلة، مع إيضاح المفارقات بينها، وكانت هذه الوسائل مثار بحثه الدائم وتساؤلاته خلال نزوله الميداني ، واعتمد منهجه على أدوات حسيّة، يعد الشريط والرسائل غير الرسمية أبرزها، باحثاً من خلالها عن المظاهر الأخلاقية، وثقافة الإدراك الأخلاقي ضمن الأعمال الإبداعية ، مُرَكِزاً على نوع أدبي من الشعر، المعروف بشعر البدع والجواب، وهو أكثر أشكال الشعر السياسي شهرةً وشعبية في الجنوب عامة.   

طرق المؤلف حقلاً جديداً، لم يطرقه أحدٌ قبله، في تعرضه لظاهرة شعر الشريط التسجيلي وتأثيره على المتلقين، ولا غرابة في ذلك، إذ يقول أنه في غضون أسبوعين من وصوله إلى اليمن وجد أن عشرات الآلاف من اليمنيين، من الصغار الكبار، وحتى النساء، يستمعون إلى الأشرطة التسجيلية التي تقدم كل جديد من مساجلات الشعراء وانتاجهم الشعري، لكونها تعالج قضايا حيوية وتتناول التطورات والأحداث السياسية الساخنة. ويذكر أنه حتى ذلك الحين تم انتاج أطول سلسلتين من أشرطة الشعر الشعبي، من قبل اثنين من أشهر فناني يافع، هما الفنان حسين عبدالناصر الذي بدأت أشرطته تنتشر في أواخر السبعينات من القرن العشرين ووصلت بحلول عام 1996م إلى (105) شريط، ونالت شهرتها خلال عقدين من الزمن، غنى فيها قصائد ومساجلات لأكثر من 64 شاعراً من مختلف مناطق اليمن. وفي السنوات التالية احتل الفنان علي صالح يافعي مركز الصدارة وطغت أشرطته على الساحة اليمنية بمجملها، خاصة في مناطق الجنوب، وتجاوزت منتجاته من الأشرطة ما أنتجه الفنان حسين عبدالناصر بكثير، ووصلت أشرطة هذين الفنانين إلى متناول مئات الآلاف من المستمعين، ولذلك اتخد منها المؤلف المادة الأساسية لكتابه. وفيما انقطع حسين عبدالناصر عن الغناء، فأن الفنان علي صالح ما زال يتربع على عرش الغناء اليافعي حتى اليوم.

   

 

 

ومن بين الشعراء الذين كانت لهم صولات وجولات في هذا الفن الشعري السماعي وكان لهم حضورهم البارز في صفحات هذا الكتاب الشاعر شائف محمد الخالدي، صاحب الباع الطويل في أشعار المساجلات وغيرها، يقول عنه المؤلف:" كرّست جزءاً كبيراً من هذا الكتاب لشعره وحياته، فخلال زياراتي الكثيرة له والتي وصلت إلى 21زيارة، استمتعت بالجلوس معه واللقاء به، رغم شعوري بأنها لم تكن طويلة بشكل كاف"، كما خصص له صفحات ضافية للحديث عن سيرته وإبداعه.وهناك العديد من الشعراء والفنانين الذين تعرض لانتاجهم الشعري والفني.

لا أدري كيف لي أن ألخص مضمون كتاب كبير الحجم، بأسطر قليلة، إنه أمر صعب ولن يفي بالغرض، وقد سبق لزميلي الكاتب الفيلسوف د.قاسم المحبشي أن تناول الكتاب ببعض الأضاءات الرائعة. ولا شك أن عملاً بهذا الحجم، يتألف من 567صفحة، وبموضوعاته المتعددة يحتاج لقراءات عديدة من قبل المهتمين، وقد نعود لتناول بعض فصوله وموضوعاته. 

وهذه الإضاءة عبارة عن تحية فقط لمؤلفه الباحث الأمريكي فلاك ميلر، الذي أظهر لنا هذا السِّفر الجميل والمفيد، ولمترجميه من زملائي في كلية التربية يافع ممن انبروا لترجمته عن الإنجليزية، وهم: د.عدنان سعيد المحرمي، د.علي سالم السعدي، وصالح أحمد بن سبعة، ومراجعة د.أمين حسين القعيطي، وهي التجربة الأولى لهم في خوض مجال الترجمة، التي اجتازوها بنجاح، وقد رصدت بعض الأخطاء البسيطة، ورأيت ضرورة الإشارة إليها لتجاوز مثل تلك الهنَّات في أية أعمال قادمة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ورد اسم (قاويل) في نسب يافع والأصح (قاول) و(ناتحه) والأصح (ناعته)[ص63] . وكذا القرون(المرجفة) في قصيدة للخالدي، والأصح (المرجبة) وشتان بين المعنيين[ص462]. كما لم أجد وضوحاً في معنى كلمة (مواتر) التي جاءت في عنوان الفصل الثالث (مواتر أشكال وألوان:ظهور صناعة التسجيل وسكان الغناء)، وبحثت عنها في معاجم اللغة ولم أجد ما أقتنع به من ورودها في عنوان الفصل؟؟. 

وبالمثل ألفت انتباه المراجع اللغوي زميلنا د.أمين إلى بعض الهفوات والأخطاء البسيطة التي فاتت، ربما لضخامة العمل. مثال ذلك (سعيت جاهداً للوصول إلى بناء نموذجاً واسعاً)، والصحيح (بناء نموذجٍ واسعٍ –ص39). ومثل هذه الملاحظات لا تقلل من قيمة الجهد المبذول سواء في الترجمة أو المراجعة، وجلّ من لا يخطئ.

  وشكراً لمركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر الذي اعتنى بصدور الترجمة العربية فأصبح هذا المؤلف الهام متاحاً للقارئ العربي.

مقالات الكاتب