شكراً أيها القراء

 «القارئ هو الذي يخلق الكِتاب في آخر المطاف» العبارة للكاتب والمخرج الأميركي بول أوستر، والذي لم أكن أعرفه إلا من خلال حوار مع صحيفة النهار اللبنانية، أجرته الكاتبة الصحافية والمترجمة جمانة حداد في 2003.

 

ربما يرى البعض في عبارة أوستر، شيئاً من المبالغة، إلا أنني ممن يقدّس ثنائية الكاتب والقارئ، فما الفكرة والنص المكتوب إلا لقاء بين الطرفين، يخلق تفعيلُه، خبرات تراكمية لدى الكاتب.

 

كتاب «العادات السبع للناس الأكثر فاعلية»، قدّم صاحبه ستيفن كوفي في مقدمته الشكر إلى طلابه والآباء والشباب الذين جرّبوا مادة «كوفي» وقدموا له الآراء المختلفة، إيماناً منه بأن ذلك النجاح إنما هو نتاج تلك الشراكة مع الآخرين.

 

وأنا بدوري أتوجه بالشكر إلى قرائي الأعزاء الذين هم ثروتي و«عزوتي»، فأنا أدين لهم بالكثير، وأفادوني بما لا يقل عن إفادتي لهم، ودائماً وأبداً أكرر عبارة الإمام الشافعي «الحر من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة»، وكم عشت من لحظات الودّ مع قرائي، وكم تعلمت منهم مفردات ولفظات.

 

ربما تمردتُّ على كل أعراف الكُتّاب، وقفزتُ خارج قفص القولبة الإعلامية، وأوليتُ تعليقات القراء اهتماماً بالغاً، وصل إلى حد تعرضي للنقد.

 

الأصدقاء قالوا: «اجعلي بينك والقراء مسافة، فالكاتب كلما كثُر ظهوره، خفُت بريقه»، شكرتُهم وقلت: «أدرك أن أعظم قصص الحب هي تلك التي لا لقاء فيها، لكنني ابنة القصص التقليدية، ولا أرتقي برجاً عاجياً.. ولن يكون».

 

أما الخصوم فقالوا: «كاتبة شعبية تجمع حولها عوام القراء»، تجاهلتُهم وقلت: «لي البسطاء والعوام والطيبون، ولكم النخب ممن لا يليق بكاتبة مثلي أن تدخل مجالسهم».

 

لست أكاديمية ولم يتسنّ لي السير في أروقة المراكز البحثية، ولم يُشرف على تدريبي خبراء الإعلام والأقلام، بل عركَتْني الجهود الذاتية نحو البحث والمطالعة والمحاولة والاستفادة من الكبير والصغير، ووكَلتُ إلى القراء مهمة تطويري وصقل أدواتي.

 

تعلّمت من القراء أن أدقق في ما أكتب من جهة اللغة وقواعدها، وكثيراً ما احمرّت «وجنتاي» لتعليق أحدهم على إحدى مقالاتي: يا أخت إحسان، أخطأت بقولك: أكِفَّاء (عند الوصف بالكفاءة)، والصواب أن تقولي: أكفياء، أو أكْفاء (بسكون الكاف وفتح الفاء).

 

يا أخت إحسان، أخطأت بقولك: صعد على السُلّم، والصواب أن تقولي: صعد في السُلّم.

 

ربما أحتقر التعليق للوهلة الأولى، كنت أقول متذمرّة: «أشير إلى القمر، ويشيرون إلى اصبعي، تركوا كل المحتوى وتصيدوا لي خطأ لغوياً لا يعرفه سوى أهل التدقيق»، لكن مع أُفول الزهو وذهاب الثورة، أرى فضل القراء عليّ، فأنّى لي البحث وسؤال المدققين لولا التعليق، وأعترف بأن القارئ على صواب لأنه لم يجاملني.

 

إن لم نكن كأصحاب أقلام نهتم باللغة وأبنيتها وقواعدها، ونراعي الدقة في الإعراب، فمن ينتصر للأمة في معركة اللغة؟

 

نعم، هي معركة بالفعل، معركة ضد لغة القرآن، كما يقول المفكر أنور الجندي، لها خيوطها المرتبطة بالاستعمار والاستشراق والتغريب والصهيونية والماركسية، لا عبر سلسلة ممتدة من المحاولات، ربما بدأت في ثمانينات القرن الـ19، عندما دعا الديبلوماسي البريطاني اللورد دوفرين في تقريره في 1882 بعد الاحتلال البريطاني على مصر، إلى معارضة العربية الفصحى وتشجيع العامية واعتبارها حجر الزاوية في بناء الثقافة والتربية والتعليم.

 

وانتهت بخطة تبديل الخط العربي وقواعد النحو باسم تطوير اللغة، وهدفها التحلل من القوانين والأصول التي صانت لنا اللغة التي منحتنا القدرة على مطالعة التراث الإسلامي والعربي على مدى قرون.

 

فشكراً أيها القراء..

 

استفدت من القراء بتلك الدفعة القوية تجاه البحث والمطالعة المستمرة في العلوم المختلفة من شريعة وتاريخ واجتماع وسياسة...، ذلك لأن الانفتاح على القراء ومدّ الجسور معهم، والحرص على عدم تجاهل تعليقاتهم وأسئلتهم، حصرني في كثير من المسائل بين خيار الاعتراف بالجهل والوصول إلى المعلومة عن طريق البحث أو بسؤال أهل الاختصاص، فلا أخفيكم سراً، أنني دائماً وأبداً أميل إلى الأخير، ربما لأنه ما تمليه علي طباعي وتركيبتي

 

النفسية، لكنني أجد متعة كبيرة في الغوص في بطون الكتب والمراجع، حتى أظفر بها، وعندما أفعل أرغب في أن أهتف: وجدتها، وجدتها، على طريقة أرخميدس.

 

وكما قيل: «التطوير ينطلق من المعاناة»، ولم أجد أكثر عناء من حرصي على إجابة أسئلة القراء، الذين يتعامل معي معظمهم على أساس أنني خارج التصنيف، فبعضهم يسألني عن الأحداث الجارية ووجهة نظري السياسية، وبعضهم يسألني عن أحداث تاريخية، وآخرون يسألونني عن قضايا فقهية وعقائدية، وبعضهم يسأل عن اللغة، وغيرهم يسأل عن الاقتصاد، يظنون أن هذه التي تكتب، عالِم موسوعي، غير مدركين أنني كالكثيرين أقف على ساحل بحر المعرفة، ولم تلامس قدماي ماءه بعد.

 

لكن بعد فترة تتراكم فيها المعلومات، أجد نفسي مدينة لهم بالشكر، على أن منحوني هذه الفرص العظيمة للنهل من المعارف والعلوم.

 

فشكراً أيها القراء..

 

استفدت من القراء معرفة الـ«أنا» خاصتي، فأحياناً وفي خضم سيول الإطراء والمديح والثناء وإضفاء الألقاب الرفيعة، يصيبني شيء من الزهو ورؤية النفس، كما قال «نيتشه»: «كلما أصعد، كان يتبعني كلبٌ اسمه (الأنا)»، لكن قرائي كانوا دائماً لي بالمرصاد، يردّوني إلى الصواب من حيث لا يدرون.

 

عندما أتفقد التعليقات أو الرسائل الخاصة وأقف على مستوى الثقافة والمعرفة لدى بعضهم - تتأكد في الحوار والنقاش - أدرك سخافة الاستعلاء المعرفي، وأن قارئي ليس بالضرورة أن يكون مفتقراً إلى المعلومة التي أدلي بها، فيقع في روعي الحديث النبوي الشريف: «فرب حامل فقه إلى من هو أفقه، ورب حامل فقه ليس بفقيه»، وكثيراً ما حملتُ الفقه والمعرفة إلى من هو أعلم مني وأوسع ثقافة ومعرفة.

 

ربما يعتبر البعض هذه الاعترافات نوعاً من جلد الذات، لكنها الحقيقة التي أسعد حين أقر بها ولا غضاضة، فعلاقتي بالجمهور قامت على أساس العاطفة، فرضتْ نفسها بيننا، تُحركني إليهم وتُحركهم إلي، وأحياناً أكاد أبكي لعجزي عن تقديم المزيد لهم، فتواسيني عبارة المنفلوطي التي صدّر بها كتاب العبرات:

 

«الأشقياء في الدنيا كثير، وليس في استطاعة بائس مثلي أن يمحو شيئاً من بؤسهم وشقائهم، فلا أقل من أسكب بين أيديهم هذه العبرات، علّهم يجدون في بكائي عليهم تعزية وسلوى».

 

فشكراً أيها القراء..

 

تعلمت من القراء الصبر وسعة الصدر وقوة الاستيعاب، فدعك من بذاءة البعض واستهدافهم لي بالسباب، لكن تنوع المشارب والاتجاهات، وتباين المستويات الثقافية، وضيق الأفق لدى البعض، وحمْل كلماتي على أسوأ المحامل، كل ذلك وأكثر، كفيلٌ بأن يستخرج مني الصبر، وأكون كما أوصى الإمام ابن الجوزي في صيد خاطره، مأمورة بألا أتعدى الصواب ولا أتعرض لما يفسدهم، بل أجذبهم إلى ما يصلح، بألطف وجه. ولا أنكر أنني ما زلت أتلبّس بحدة في المزاج تعتريني من آن لآخر، لكنني بفضل الله ثم القراء، في تحسن مستمر بهذا الشأن.

 

فشكراً أيها القراء..

 

استفدت من القراء تحديد الفكرة، كثيراً ما كنت أستغرق في التفكير لتحديد الموضوع الذي أكتب فيه، وبينما أعاني ذلك الإغلاق، أطالع الرسائل والمقترحات، فإذ ببعضهم يشد انتباهي إلى قضية، أنا في غفلة عنها، ولن أبالغ إن قلت إن بعض مقالاتي التي نالت شهرة واسعة، كانت في أصلها مقترحاً لبعض القراء.

 

فشكراً أيها القراء..

 

لعلها كانت إشارة إلى ذوي الأقلام والمنابر، تتضمن دعوة إلى النزول من الأبراج العاجية، والانخراط مع الجماهير، فهم ثروة كل كاتب، ومحبرة كل قلم، ومداد كل فكرة، هم مصدر إلهام لمن يتأمل واقعَهم وحياتهم وكلماتهم، فهنيئاً للمستثمرين.

مقالات الكاتب