وأقلعت الطائرة

قوام رائع ووجه فاتن وتسريحة جذابة وأناقة ملفتة... و إبتسامة حزينة.


غنت نانسي عجرم تقول "في حاجات تتحس و ما تتقلش... و إن جيت أطلبها أنا ماقدرش...".


إنتهت الحفلة و تفرقت النساء و ذهبت التحفة الربانية و بقي الحديث.


 تزوجته عن حب كبير و كان عرسهما أكبر. تحدث عنه القاصي و الداني، و قال الكل الله أكبر،عريس وسيم وعروس أجمل.


 لتتوقف عقارب ساعة السعادة و تبدأ الحياة، و يلتحق بالركب الذي يترك زوجته لشهور في بلدان الإقامة بحجة مشاغل متوقفة في المغرب، و ما كانت لتنتهي هذه المشاغل يوما.

لتعيش أبا و أما بمفردها معظم شهور السنة. تؤجل طلباتها و طلبات أولادها و تقلل من المصروف، لكي تستطيع دعمه ماديا في محنته.


 مر أكثر من عشر سنوات على حياة أسرة تتوقف جمعاتها على موعد إقلاع الطائر، مع رجل تعود أن يعود حين يحلو له، و أن يجدها عندما يحتاجها.


 إرتشفت قهوتي و أنا أتذكر مثيلاتها، فهناك الكثيرات ممن تزوجن رجالا أتو من بلدان أخرى و لم يتقبلوا فكرة أن يعيشوا في مجتمع مغاير لبلدهم. و هناك من لم يحاول التأقلم مطلقا.

 

و هناك الأخريات ممن بقين وراء البحار، وقد كن كثيرات في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. فكم من سيدة إضطرت إلى أن تربي أربعة و خمسة بل و عشرة أبناء بمفردها في ظل زوج لا يأتي إلا مرة في السنة، معللا إمتناعه عن لحاقها إليه، أن بلاد الغرب ليست للمسلمين و لا تصلح لتربية الأبناء. لا زلت أذكر جملة صديقي الذي قال لأبيه بذكاء براءة الأطفال "و هل أنت من الكفار يا أبي".


 و الأخرى التي ظنت أن المسافة من جبل طارق إلى تطوان هينة، و أنه لا مشكلة في أن يعمل بعيدا عنها و أن تراه كل نهاية أسبوع. غير أن هموم الأولاد و ثقل جرة الغاز جعلها تقول، ليتني لم أقبل منذ البداية.


أفقت من شرودي و أنا أسمع تتمة الحديث.


 عندما يأتي زوجها توقظ فتياتها باكرا و تحضر مائدة الإفطار قبل أن ينهضا من نومهما. فتجلس الأسرة الصغيرة حول المائدة و تقول البنات نحن أسعد أسرة و أنتما أجمل والدين. تحبس الأم الدمع عن مقلتيها و تربط على قلبها و تقرر الإستمرار مع رجل باتت تنسى تفاصيل ملامحه مع مرور الأيام، و هي تنتظر موعد سفره المقبل بفارغ الصبر.


 وضعت فنجاني على الطاولة، و عدت إلى شرودي، و أنا أفكر في تلك التي أخبرتني أنها تعيش مع رجل هو زوجها و أب أبنائها و صبر الأيام لها. غير أن الصبر مضنٍ يا مريم.

عشت كل شيء و نسيت أن أعيش. عشت له و للبيت و للأبناء و للفواتير و للمواعيد و مر العمر و نسيت أني إمرأة و إنسانة تحتاج إلى الأمان و إلى زوج يحضنني بحب لحظة إنكساري و ليس من أجل لحظات الواجب. فعشت أنتظر الصباح لكي أنسى حديث النفس لي في المساء.


 لا أدري من المحظوظ هنا، هل هي التي عندما سأله المذيع عنها، بعد زواج دام فوق الخمسين عاما فقال "هي زوجتي أحيانا، و صديقتي أحيانا و حبيبتي دائما". أم ذاك الذي قالت عنه "هو عندي أهم من أولادي و هو أغلى الناس عندي. كل النساء يقلن أن أولادهن هم أغلى شيء في حياتهن، لكن أنا في الحقيقة زوجي هو أغلى ما في حياتي".

 

أعتقد يا أستاذ دريد لحام و يا سيدة هالة بيطار، أنه بعد فضل الله تعالى ، كلاكما بذل جهدا صادقا تجاه الآخر ليستمر العمر تحت ظل حب الصداقة و العشرة. الجودة ليست صدفة.
 لكن هناك سيدات أحببن بصدق مثلك يا سيدة هالة، حبا لا يقل عن حب الأم لولدها... و ما الأنثى إلا قلب 
أم منذ أن ولدت...!


غير أن الأقدار أبت غير ذلك.


 هناك من أحبته و كان لأخرى و لبيت آخر فيه أولاد. و هو الآخر أحبها و لم يعلم ما هو الصحيح في وضعه. و بعد صراع مع عذاب الحب و جمر محاولة الإبتعاد و تأنيب الضمير. قررا أن يديرا ظهريهما لكل شيء و أن يكونا لذلك الخفقان الذي لم يهدأ منذ أن بدأ.


 تزوجته و قبلت أن تكون الثانية و المجهولة، فقسوة نار فراقه لم تجعل لأي شكليات أهمية. قررت أن تعيش خارج البلاد و أن تقضي كل وقتها في العمل إلى أن يتفرغ لزيارتها، لتكون زوجته الوحيدة هناك. و أن تدعه للأخرى في الضفة الأخرى. غير أن ليالي الوحدة و الإنتظار جعلتها تقول "لا... ليس هذا ما أردته... ".
 كتبت له تقول "أنت عندما ارتطبت بي لم تتغير حياتك و لم ينقصها شيء، بل زادت بي و بحبي لك. لكن أنا ضعت منذ البداية. ليس الحل أن تترك الأولى، فما لها من ذنب في ما شعرنا به. ربما أنا ممن كتب عليها أن تعيش الوحدة دائما.


ليتني ما قابلتك و ما أحببتك..."


 مهما انساقت المرأة وراء مشاعرها، فإنها في لحظة الاختيار لا تختار إلا ذلك الذي يضمها و يحترمها و يكون لها مصدر حماية. و طبعا يبقى الاختبار هو محك الإختيار.
 أنغام غنت " أنا مش حبيبتك.. أنا حته منك..." غير أن الكثيرات يا أنغام قلن "أنا مش حبيبتك و عمري ما كنت حته منك، لكن أولادي حته مني"... قالها أب و قالتها أم و مرت الأيام.


 و قالت هي ما لن يفهمه هو "أنا مش حبيبتك و عمري ما كنت حبيبتك و لن أكون في يوم من الأيام... الحب اهتمام و أن أجدك عندما أحتاجك لا فقط عندما تحتاجني أنت."
و معك حق يا نانسي، من لها عزة النفس صعب أن تطلب، لكن في المقابل هي الأولى من تتصرف.
 أقلعت طائرتها ذهاب بدون إياب.

مقالات الكاتب