هذا ما أورثني إياه أبي

ذات مرة في وسط مدينة تطوان لمح أبي علامات الحزن على وجه أختي الصغرى. فقال لها تعالي معي إلى هذه المكتبة ثم اشترى لها كتاب "لا تحزني" و قال هذا لك و لأختك.
جرت العادة أن يتملكني دائما حزن خفي كلما سمعت برحيل أحد المفكرين والمبدعين والفنانين والسياسيين أصحاب الفكر والمواقف، سواء اتفقت معهم أم اختلفت. ليكون نعش الرحيل هو عنوان ذكرياتي.


المخرج العالمي مصطفى العقاد قال أن من أجمل ما سمعه في حياته هي جملة رجل عربي ناده بلهفة بعدما رآه صدفة في الشارع ليقول له "أتمنى من الله أن يأخذ من عمري و يزيد في عمرك لكي تسعدنا و تمنحنا أفلام عظيمة نتعلم منها".


فعلا أخذو من أعمارنا في كل لحظة إبداعية منحوا أنفسهم لها بصدق و منحناها نحن لحظات من أيامنا و ليالينا. كيف لا وحقائب وصنادق الجرائد والمجلات التي تعود لفترة التسعينات ما بين (القدس العربي) و (الأهرام) و(الشرق الأوسط) ومجلات كثيرة ومتنوعة من المغرب والدول العربية وهي تحمل خبر إنجاز هذا، ورحيل ذاك، كلها ما زالت بحوزتي.


ظل أبي يوصيني على الدوام بأن أشتري الشرائط و أن لا أنسى تسجيل برنامج كذا في الجزيرة، و برنامج كذا في قناة شبكة الأخبار العربية، و برنامج كذا في بي بي سي، والمنار وإقرأ، ومعرفة موعد هذا وموعد ذاك. ورغم أني قلت له ذات يوم أنا لا أحب القذافي يا أبي فهو غير وسيم. أجاب لا حول و لا قوة إلا بالله، هكذا هي البنات تبحث عن المظهر و تنسى لب الموضوع. ضل يناديني في كل مرة للجلوس بجواره لمتابعة خطاباته أحيانا، وتحركات ياسر عرفات أحيانا أخرى، ومستجدات الحفريات التي تتم تحت المسجد الأقصى بينهما، وآخر تحركات الملك محمد السادس. دون أن ننسى أن نعلق أحدث صورة لانتصارات الكيان الصهيوني في غرفة الجلوس، حيث يظهر فيها طفل صغير إسمه محمد الدرة وهو يستشهد في حضن أبيه.



ليضاف إلى أرشيف الإعلام والورقي، حقائب مليئة بالشرائط لكل البرامج والمقابلات المدوية وقتها، هذا غير شرائط المسلسلات الشهيرة كالأزرق ورأفت الهجان و المال والبنون وسلسلة لا إله إلا الله محمد رسول الله و مسرحيات عادل إمام و عبد الرؤوف، التي رافقتنا قبلها والمتداولة بين عرب المهجر أنذاك، دون أن نغفل عن أهم الإصدارات الأفلام العالمية و العربية و هو الذي كان من تخصص أخي


أتذكر أني سمعت برحيل الأميرة ديانا وأنا في ميونيخ و برحيل فريد شوقي في ديبوغ ورحيل الحسن الثاني في السيارة و برحيل أحمد زكي في هيبنهايم، ووفاة الشيخ كشك في فرانكفورت، و رحيل نزار قباني في المغرب، ورحيل أنطوني كوين في اليوم المشمس ومصطفى العقاد في الإنفجار وسعاد حسني من أعلى الأدوار وفلان في رحلة علاج و الآخر في إغتيال والأخرى بمرض السرطان، و ياسر عرفات مسموما و صدام حسين يوم العيد فأي عيد.


في أحد الأيام في شارع محمد الخامس بتطوان أثارني عنوان و غلاف كتاب في واجهة مكتبة الإدريسي، حيث يظهر فيها صور و أسماء لعدة زعماء و مشاهير عربية وغربية، فقلت لأبي أريد شراءه. تناول أبي الكتاب و بدأ يتصفحه ثم قال لصاحب المكتبة وهو يشير لكل صورة على حدة : هذا صديقي.. و هذا لا يعجبني..و هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه. وتاج رؤسنا..أما الآخر فهو جاهل و الذي بجانبه منافق و هذا الأخير صعلوك، وهذه مسكينة ضحية وهذا زعيم عظيم و الآخر قائد همام... و هذه لا تعنيني و الأخرى لا أعرف عنها شيئا.. لكنهم كلهم أصدقائي...ثم إلتفت إلي و قال عليهم أن يكونو أصدقاءك أيضا...لكي تعرفي ماذا يجري و لكي لا تكوني من ضمن القطيع.


أما والدتي فسألتني عن أحوال إبن أخي في مدرسته، فقلت لها هي جيدة، غير أنه لا صديق له. تقول المعلمة إنه يلعب مع الجميع لكن ليس لديه صديق معين. قالت أمي إذن هو مثلك. أنت صديقة الجميع و لا أصدقاء لك، ودائما بمفردك.


ربما يا أمي.
قال نجيب محفوظ "عشت لا أخشى أحدا إلا رحيل من أشعر بالأمان بحضرته". فما أرحم الوحدة التي تجنبنا مرارة الفراق، وما أعظم السفر الذي يلقي بنا في أحضان المجهول، فنتحرر من الخوف وهذا هو لب الأمان. و هو الذي قال أيضا من العبث أن نناقش قوما ليس بيننا و بينهم لغة مشتركة. فأهلا بأصدقاء اللا الزمان و اللا مكان... أصدقاء رحلوا و يرحلون...فشكرا على كتاب "لا تحزني"..
و هذا ما أورثني إياه أبي...

 

مقالات الكاتب