رجل يشبهنا..مر من هنا

المكان: العاصمة الأردنية (عمّان).


الزمان: في ٢٠٠٣، بعد ظهيرة يوم من أواخر أيام فصل الربيع.


 الحدث: جمع من الناس حول رجل يتحدث بأشياء غير مفهومة، صوته عالٍ مزعج، تماماً مثل «لينكولن»، متلعثماً كما هي حال «ديموثينز» الخطيب السياسي ورجل الدولة، الذي عاش ومات قبل ميلاد المسيح عليه السلام.


 بعدما عرفت حكايته، قصدتّ «قاع المدينة» أكثر من مرة لكي أراقبه، وطلبت من المصوّر في صحيفتي أن يلتقط له صوراً عدة في حينها، حاولت حصر عدد المرّات التي كتب عنه في الصحف اليومية أو الأسبوعية، البعض كتب، ولكنه ككل الذين يُنسون كأنهم لم يكونوا، في عالم مزدحم بالتناقضات وخيبات الموجوعين، لم يُكتب عنه كما يجب.

 

كنت أحاول أن أعيش ولو ليلة من ليالي الانتظار التي عاشها هو قبل أن أولد أنا، تلك التي قضاها في الشوارع هائماً يعدّد أسماء الذين تخلّوا عنه، ويستحضر وجوه من خطّط للقائهم بكامل اللهفة والمحبة، بينما تجاهلوا وجوده على الأرض أصلاً، وبمنتهى القسوة والأنانية.

 

كان لا يتحدّث إلا نهاراً تحت أمطار الشتاء أو في قيظ الصيف، ربما لأن روّاد المدنية العتيقة «نهاراً»، يشبهونه أكثر، وينتمون إلى عالمه وعوالم أولئك البسطاء الذين يستيقظون باكراً، قبل العصافير كي لا يسبقهم إلى العذاب أحد.


وكان يلتزم الصمت وأكل «العوّامة»، وكل ما يجود به عليه بعض الباعة وأصحاب المطاعم مساءً.


 لم يكن ذا لسان فصيح، ولم يؤت بلاغة الأدباء، لكن حديثه كان قوياً في شكل غريب، مصقولاً بطريقة مدهشة.


 كان يفتقد البراعة في تقسيم الأفكار وترتيب المضامين، لكنه يملأ المكان حماسة، يسترعي انتباهك من مجرّد ملاحظة ملامح وجهه، وظِلّ معطفه المتآكل الأكمام، وبمجرد ملامسة نبرة صوته لمسامعك.


 يفتقر إلى المزايا الشكلية، لكنه يضجّ بروح تشبه روح النحّات الفنان العبقري «مايكل أنجلو»، الذي تمت كتابة سيرته على أيدي مؤرّخين بينما كان على قيد الحياة، وتم وصفه بأنه أهم فناني عصر النهضة.
 هل كان عليّ أن أحذو حذو المؤرّخ «جورجو فازاري»، الذي كتب عن حياة أنجلو وهو على قيد الحياة، فأكتب أنا عن قصة حياة ذلك المنسيّ في قاع المدينة، والذي لن أنساه أبداً؟

يقال إن أخطر وأهم مراحل عروض الشارع تكمن في الحوار المباشر مع الجمهور أثناء العرض، ومدى مقدرة الأبطال على البناء فوق ما يقوله مشاهد ما «فضوليّ» أو معترض على مضامين المسرحية، والأهم كيف يسيطرون هم على الأمر فلا يتحول العرض إلى مناظرة حوارية جافّة.

 

الرجل كان بارعاً في قيادة المشهد كله، بمفرده، يسانده أحياناً أحد مستمعيه القدامى، فيومئ له «أن اسكت، أنا وحدي صاحب هذه الحكاية وسيّدها».
 كان يتحدث بمنتهى العفوية، بشغف وعطش حياة كاملة، بكل ما فيها من تفاصيل وعثرات وأسرار ومواجع.


 ليس في كلامه نكهة الكتب ولا تنتمي مفرداته إلى الغابات ولا الحقول ولا إلى مرافئ تضجّ بالنوارس وأكفّ المرتحلين التي تلوّح للأحبّة، وإنما كان شيئاً حيّاً يتسلّل إليك على رؤوس أصابعه، ويتلصّص على نبضك بدهاء، تمهيداً لإشعالك بجزئية في المضمون تحاكي تفاصيل واقعك أنت.
 يتدفّق الكلام من قلبه كالحمم الملتهبة، يستقبل الناس قوله إما بسعال يتحايل على المحيط، لإخفاء دمعة رجل مكابر موجوع، أو بحوقلة تنبعث من فم آخر مكسور، لتعيد إلى القلب توازنه.


 كل من يعرف ذلك الرجل أو يراه المرّة الأولى، يخيّل إليه أنه من فرق المسرحيات المتجولة، لكنه لم يكن كذلك، بل كان حقيقياً، ينتمي إلينا بكل ما فيه، لذلك كنا نسمعه ونصدقه، بل أحببناه وافتقدناه وبحثنا عنه في أزقّة عمّان الضيقة، وبكيناه حين عرفنا أنه مضى من دون أن يمزّق ذلك المغلّف البريدي أو يشتري لصحبه وجيرانه صينية هريسة (حلوان) تلك التذكرة والتأشيرة التي وعده بهما شقيقه قبل ثلاثة عقود حين سافر إلى أميركا وقال له بعد أسبوعين سأرسل لك، للحاق بي، ولكنه لم يرسل له يوماً ولو ورقة بيضاء.

 

غادر بصمت ككل الطيبين، الذي يعيشون ويموتون على هامش الحياة من دون أن يرثيهم أحد، أو يكتب عن موتهم قلم.
يقول أميرسون: «كل حركة كبيرة في سجلات التاريخ هي انتصار للحماسة».


 لديّ يقين بأن ذلك الرجل كان عظيماً، وأن ما نجهله عنه أكبر مما عرفنا، وأعمق مما قد يقال ببلاغة، أو يوثّق في كتب علم النفس الحديث.


 يقول وليام جينجيز بريان: «قد تعرّف الفصاحة بأنها الخطاب الذي يلقيه شخص يعرف ما يتحدث عنه، ويعني ما يقول، فالمعرفة فائدتها قليلة للخطيب من دون الجديّة».

 

ويقول مارتن لوثر: «لو رغبت في التأليف أو الوعظ بشكل جيد، فلا بدّ أن أكون غاضبا، وبعدها تتحرك الدماء كلها في عروقي ويصقل فهمي». قال أحد مدربي الحيوانات المشهورين: إنه يعرف «كلمة تثير الغضب ليرفع نبض الحصان 10 ضربات في الدقيقة»، وبالتأكيد فإن المستمعين من البشر لديهم حساسية الحصان نفسها، أو هكذا يظن.
 لكنه غاب عنه أن الإنسان خاصة، يتفرّد بذلك الشيء، فهو لا يصل إلى قلبه إلا ما خرج من قلب المتكلم، عندما تلفّ العاطفة الصادقة القوية قلبه وتتدفق فيه كل معاني الشفقة والحرص على نفع الخلق، وقبلها تعظيم الخالق.


 كان ابن الجوزي من كبار الوعّاظ، في مجلسه تهطل العيون وتخفق القلوب، يفيض علينا من صيد خاطره، فيقول: «جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من 10 آلاف، ما فيهم إلا من قد رقّ قلبه، أو دمعت عينه. فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت؟ فصحت بلسان وَجْدي: إلهي وسيدي، إن قضيت عليّ بالعذاب غداً، فلا تعلمهم بعذابي صيانة لكرمك، لا لأجلي، لئلا يقولوا عذّب من دلّ عليه».


 جميعنا نعتقد أن الذي يحركنا هو العقل، وأن الذي يصل إلى العقل هو حديث العقل، ولكن الحقيقة تقول: إن العالم كله تحرّكه العاطفة، والخطيب الذي يتصنّع الجدية والذكاء، قد يفشل بسهولة، بينما الخطيب الذي يتحدث بيقين، لا يفشل أبداً.

 

وهنا تبزغ أهمية الإيمان بالقضية، فلا مكان للمتكلّفين في حيّز التأثير، قد أدركها «عمر بن ذر»، ذلك القاصّ الذي ألهب قلوب أهل الكوفة بمواعظه، عندما سئل: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد، فإذا تكلمت أنت، سمعت البكاء من كل جانب، فأجاب عمر: «يا بني، ليست النائحة الثكْلى كالنائحة المستأجرة».
 ليس مهماً نوع الموضوع الذي تتحدث فيه أو عنه، بقدر أهمية أن تدرك قيمته لديك، وليست أهمية طريقة الإعداد والأسلوب، بأعظم من أهمية الإخلاص وقوة العاطفة التي ستلقي بها الخطاب، على مسامع الآخرين.


 وهنا يطلّ شاعر الإسلام محمد إقبال على وعّاظ الإسلام بقوله: «لا بد أن يعيش العقل والعلم والقلب في حضانة الحب وإشرافه وتوجيهه، ولا بد أن تسند الدين وتغذّيه عاطفة قوية، وحب منبعه قلب المؤمن الحنون، فإن تجرد الدين عن العاطفة والحب، أصبح مجموعة من طقوس وأوضاع وأحكام لا حياة فيها ولا روح، ولا حماسة فيها ولا قوة».


ولله درّ القائل:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
 يقال إن عازف البيانو الكبير آرثر روبنشتاين عزف مجموعة كبيرة من النوطات الموسيقية (الزائفة)، لكن لم يهتم أحد بذلك، لأنه كان باستطاعته توصيل شعر «تشوبن» إلى نفوس لم تر شيئاً في الغروب من قبل، باستثناء قرص مدوّر يتوارى خلف البيوت في الأفق.


 يسجل التاريخ أن القائد اليوناني القوي «بريكليس» قبل أن يتحدث كان يدعو ربّه بألا تخرج كلمة تافهة من شفتيه، كانت رسائله مفعمة بالإخلاص وكانت تصل إلى قلوب الأمة مباشرة.


 الإخلاص وصدق العاطفة هما معبر الكلمات إلى القلوب، وحينها سيتغاضى الناقدون عن كثير من أوجه القصور في الخطاب، والتاريخ خير برهان على ذلك، فقد كان لينكولن يتحدث بلهجة عالية مزعجة، وديموثينز كان يتلعثم في خطاباته، كما أسلفنا، ولكنهما كانا، بذلك الإخلاص العاطفي، من العظماء عند الشعوب وعند من عاصرهما وكتب عنهما.


 نعم، كان لدى أبرز الخطباء والملهمين أصوات ضعيفة، وربما يتلعثمون أو يبتلعون بعض الحروف، لكنهم كانوا يتمتعون بجدية تغلّبت على كل هذه العيوب، ودافع عاطفي حقيقي وصادق، قهر كل العقبات وجعلها عدماً... بل وربما.. سلّّما.

مقالات الكاتب