مقال لـ مريم عرجون (الرّائعون في البداية)

ـ سيدة مي زيادة... أنا طه حسين و بودي زيارتك غدا..

ـ لا يا سيدي..
ـ إذن متى أزورك؟
ـ لا تزورني أبداً..
ـ لماذا يا سيدتي؟؟
ـ أتريد أن تعرف السبب حقا؟؟!
ـ نعم...
ـ لقد قررت أن لا أقابل أحداً من الناس إلاّ رجال الدين... فإذا أردت أن تراني فكن قسيساً...
ـ سيدتي.. يعز عليّ ألأّ أراك و يستحيل أن أكون قسيساً.
 (إنتهى)

"الجو بارد هذه الليلة و المطر الشديد.. يالا لياليك يا ديسمبر.. أخيرا وصلت.."


 في مقهى زيينت طاولاته بالشموع الحمراء و تحت إضاء خافتة المنبعثة من زواياه، وعلى أنغام معزوفة بآلة الكمان المرفقة بأصوات همهمات الحديث و إيقاعات السكاكين و الشوك فوق الأطباق و الملاعق في جوف الفناجين. رأته أمامها على الطاولة المقابلة و هي تطالع قائمة الطلبات. نظر في عينيها بدقة و تفرسها بأكملها، ثم أدار وجهه كأنه لا يعرفها.
 تذكرته كيف كان يطاردها لمدة عامين هنا وهناك، و أنها إن لم تكن له فالموت نهايته لا محالة. أين ذهب كل هذا ؟!


 ذهبت بذكرياتها و هي تتذكر الأخر الذي كان يحاول مرارا و في كل مرة الحديث عن رغبته في علاقة معها، و كيف أنها حاولت تجنب خسارة صداقته، و كيف أجابها ذات يوم حين أراك في المرة المقبلة سوف أخبرك ما لن تصدقيه. و جاءت المرة المقبلة. قال لها انظري أنا أب و هذه زوجتي أنت مصعوقة الآن أليس كذلك. باركت و هي تبتسم للسريرة ما عرفت الود اليوم. تذكرت الأخرى التي قيل لها أنت الحلم و أنت حب العمر و أكمل و أنت التي يمكن لها أن تكون واجهتي في حفلات المجتمع الراقي. تذكرت التي قيل لها أنا إتخذ قرار الارتباط بك إلا أنه لدي بعض الملاحظات، فأنا لا يعجبني كذا و كذا و كذا، لتجيبه و أنت كلك لا تعجبني. و تذكرت تلك التي قيل لها لدي المال و الجاه و ينقصني قطعة إكسسوار و تذكرت و تذكرت.


يا إلهي... كم من حب و موت و ضياع يوجد في البداية...و كم من كذب تخفونه إلى النهاية.


 تذكرت السيدة التي طاردها أحدهم لمدة عام بأكماله فإما هي أو الموت. و بعدما قبلت به لحب قد لا يتكرر، و بعدما أصبحا تحت سقف واحد، تغير و أصبح الحب انتقاما و غدت هي الموت... تذكرتها و هي تسألها لماذا تغير..؟ لماذا لم يبقى رائعا كما كان في البداية ؟.

 

لا... هو لم يتغير.. هو فقط أفصح..  كهذا الذي لم يعرفني.. هو فقط عرّف بنفسه.. و الليلة اكتملت جملته. فقد قال الأول لا أريدك أن تكوني لأحد أبدا ثم ذهب. و قال الثاني أريدك أن تتزوجي في أسرع وقت ممكن. التفت الأول و قال لأن ما من أحد يستحقك، و أكمل الثاني و أن يذيقك وابل من العذاب.
 سمعت صوتا مفاجئ يقول "ماذا قررت السيدة أن تطلب؟". نظرت إلى صاحبه بعدما أفاقت من شرودها. كان النادل. شاب ظريف و بشوش، ابتسمت له و قالت "فنجان حليب أبيض..."

 

فراشة الأدب مي زيادة كانت معشوقة زمانها من أغلب رواد صالونها من الأدباء و الصحفين و السياسين و النخبة الاجتماعية. 
 و بين ليلة و ضحاها وجدت نفسها في مصحة للمجانين دون أن يأبه لها أحد. بعدما أودعها أحد أقربائها فيها ليستولي على ميراثها إثر سوء حالتها النفسية لفقدانها والديها و جبران خليل في آن واحد. لتدرك متأخرة حجم الكذب و روعة بدايات المحبين التي كانت محاطة بها سنين طوال.
و بقيت لنا ذكرى قرار المكالمة الخالدة " لقد  قررت أن لا أقابل أحدا من الناس إلاّ رجال الدين..."

 

.....و لا حتّى رجال الدين يا مي... فكلهم رائعون في البداية.

مقالات الكاتب