(أمي)التونسية

تعرفت على والدتي في فترة السبعينات، فكانتا معا في العمل والبيت ولحظات النزهة وغيرها.

 

تقول أمي لم أشعر يوما أنها من بلد مختلف عن المغرب، لشدة تشابه كل شيء بيننا، اللهم في اللهجة ومخارج الحروف وبعض مكونات الطعام.

 

كانت كلما عادت من تونس تشتكي سوء الأوضاع السياسية التي يفرضها زين العابدين بن علي وزوجته.كانت تقول إنه يمكن أن توصف تونس بأي صفة إلا الإسلام.

 

رغبتَ في ارتداء الحجاب في الأربعينات من عمرها، إلاَّ أنها تراجعت مرارا لخوفها من الأمن تونسي الذي لم يكن ليتردد في اتهامها بالانضمام للجماعات المتطرفة. فانتظرت إلى أن تصبح في عمر أكبر، فعلى حد قولها "المرأة الكبيرة لا يأبه لها أحد هناك".

 

لم يرزق الله خالتي التونسية أولادا فاعتبرتنا أنا وإخوتي أبناءها.

 

عاشت آخر أيامها وحيدة بعدما انفصلت عن زوجها، أيضا بسبب عدم الإنجاب وأيضا بسبب تشويعات بن علي وقبله الحبيب بورقيبة، فالقانون التونسي يمنع تعدد الزوجات.

 

ليس هذا فحسب، المشكلة أنها لم تخبره يوما أنه هو الذي لا ينجب، فصمتت وهي في عز شبابها رأفة وتمسكا به تاركة له نظرات اللوم.

 

كانت توده وتعزه لآخر لحظة في حياتها. فهي كبقية معظم النسوة في جيلها اللواتي لم يعرفن زوجا وشريك حياة غير الرجل الأول والأوحد.

 

في وحدتها عاشت أمومتها بشكل آخر. فكانت تتفرغ كل يوم خميس وجمعة لطبخ الطعام لطلبة المدينة الجامعية في مدينة دارمشتات رغم ضيق ذات يدها، وتراجع حالتها الصحية. فكانت تحمل لهم الطعام وأحيانا تطلب من تنوب عنها في المهمة.

 

أكرمها الله بالحج ثلاث مرات، وكانت كثيرة الرؤى. وكانت تهيم عشقا في الروضة الشريفة.

 

كنت أمر عليها أتفقد حالها بين الحين والآخر. أقبل يدها لتشعر بالأمومة وأسأل عن أحوالها فتقول:

مرحبا بيك يا عزيزتي...لقد سهرت البارحة أسبح الله ألفا وأحمده ألفا وأصلي وأسلم على النبي وأصحابه ألفا. وزدت مئة مرة قل هو الله أحد ومئة مرة المعوذتين.

سوف أكرر كل هذا اليوم لكن بشكل مضاعف. إلى أن أنهي هذا الأسبوع عشرة آلاف تسبيحة. فهدفي أن تصبح عشرين ألفا في الأسابيع القادمة.

اليوم وعلى أعتاب هذا الشارع تذكرت من جعلتني أحب تونس، فالأماكن أكبر فخ للذاكرة. مررت أمام النافذة وتردد على مسامعي صوت الذكر ونظرات الوحدة. فارقت الحياة في تونس قبل خمسة أعوام في عيد المولد النبوي.

 

كانت قد إتصلت بكل من عرفته في ألمانيا تودعه وتطلب منه السماح والدعاء، فهي لم تكن تدري إن كانت سوف تعود أم لا.

رحمك الله يا "أمي" التونسية...

 

مقالات الكاتب