سقط أبو محسن ؛ فأبى محسن إلا أن يكون أول من يحتضنه

قصة جمعت البطولة والمأساة معا بطولة الأب ، وحسرة الفتى ابن الأثنى عشر ربيعا .
قصة تحكي حياة شعب يقدم التضحيات ولايدر ماهو الثمن الذي يقابلها ؟ وطابور طويل من الأيتام والأرامل ظنت عليهم الحياة بكل ماهو جميل فيها ، وجادت عليهم بأحزانها ومأسيها .
 
احتضنت الغلام الصغير محسن معزيا ومواسايا إياه في استشهاد والده ، وحاولت أن اتصنع العزيمة حتى لا أبكي أمامه ، فأرني الفتى ماهو العزم والحزم على حقيقته ، ليقابل بها عزيمتي المصطنعة .
 
عظم الله أجرك ياولدي ، وأسأل الله أن يتقبل والدك في الشهداء ، استجمعت كل قواي حتى اكمل هذه العبارة ؛ وانعقد لساني ، رد الغلام الصغير سنا ، الكبير عزيمة وشكيمة ، الحمد لله ياعم سعيد ، الحمد لله ، ثم استرسل منطلقا في الحديث يروي لي تفاصيل مقتل والده ، بينما أنا منبهرا من رباطة جأش الغلام ، وهو يروي لي تفاصيل القصة ، ويصور لي مشاهدها ، وأنا منبهرا ، قاطعته من روى لك القصة ؟ فأجابني : أنا شاهدت الحادثة بعيني ياعم سعيد ، أنا كنت راكبا معه فانزلني وقال اركب في السيارة التي خلفي ، حاولت أقناعه بالبقاء معه فنهرني انزل في السيارة التي خلفي ، نزلت من سيارته ؛ وركبت السيارة التي خلفه مباشرة ، انطلق والدي ؛ وانطلقنا خلفه ؛ حتى وصلنا منعطفا فإذا بالسيارة التي كان يقودها والدي تنفجر ، صحت أبي ، أبي ، هرعت إلى المكان فوجدت والدي مرميا على جانب الطريق والشظايا قد نهشت جسده ... إجابات تتوالى سريعة ، لم يستوعب السائل إلا عناوينها ، أما مضامينها فقد كانت تذهب إلى أغور عقلي البعيدة ولا تعود لأنها لم تجد إجابات لها ! ربما لضعفي وخوري ! وربما لانبهاري برباطة جأش الغلام ! وربما تغير منطق الأشياء ، ومفاهيمها المتقررة عندي ، وربما اصبحت قناعاتي ، ومنطقي في محاكمة الأشياء قديمة ، فأصبحت أنا وما أحمله من مفاهيم خارج الزمان والمكان كالمتاع الزائد الذي لا حاجة له !
 
قاطعته لحظه ، لحظة ، يا ابني ، سؤال أنته ايش وداك الجبهة ، فأجبني إجابة مقتضبة بلهجته البدوية السريعة ، ياعم سعيد أنا رحت عنده من شأن جيب امراتب باطلع لمبيت راشن .
 
( رحت عند بوي باجيب امراتب من شأن طلع لمبيت راشن )
سطر فك رموز وطلاسم إجابات محسن السابقة التي عجزت عن فك رموزها ، وعجز منطقي عن تحليلها ، وعجزت أحاسيس عن التعاطي معها .
 
ذهب أبو محسن بعد أن صال وجال في كل الجبهات ، سائق مدرعة ، اشترك في كل جبهات عدن ، كان أحد أفراد الدفعة الأولى التي تدربت في إرتيريا ، واشترك في حرب تحرير عدن منذ بدايتها ، واصل المسير حتى وصل أخر رقعة تقف فيها الحرب منطقة العمري ، سقط هناك ليلتحق باثنين من أخوته قتلا قبله ، وبسقوطه أنتهى الجيل الأولى من الأسرة سريعا ، ثلاثة أخوة في الأربعين ربيعا ، ليستلم الرأية خلفهم الجيل الثاني الذي لايتجاوز عمر أكبرهم أثنى عشر عاما ، عزل من كل شيئ ، سوى من همم وهموم كبيرة ينحتون بأظافرهم الصخر من أجل البقاء ، وعزيمة يبحثون بها بين أكوام المأسي علهم يجدون فرصة للحياة .
 
قصة البطل أحمد السيد ، وابنه الغلام تجسد حياة شعب بأكمله ، يموت أبطاله لأهداف لاتزال مجهولة ، رغم قناعة هؤلاء الأبطال أنهم يقاتلون من أجل الدين والأرض ، وألآف الأطفال الذين فقدوا أباءهم في يمن ينضب فيه حنان الأبوة يوم بعد يوم لتكتسي مساحاته - شمالا وجنوبا - بالسواد ، يمن تراجع فيه كل شيئ إلا طوابير الأيتام والأرامل فهي في إزدياد .

مقالات الكاتب