نزغ العقلية المتطرفة وتجريفها للحياة السياسية والمدنية

بقلم / سعيد النخعي

lالحاضر إمتداد طبيعي للماضي ، والماضي الأرض التي يتشقق عنها كلا المستقبل ، وقراءة الماضي قراءةً موضوعية بعين فاحصةٍ ، وعقليةٍ متجردةٍ يعد حرثا واستصلاحا لهذه الأرض ؛ لتخرج نباتا طيبا ينفع الناس ، ويسهم في إزدهار المجتمع .

من ينظر في تاريخنا السياسي المعاصر سيجده حلقات متصلة كل مرحلة تعيد إنتاج مأساي وأخطاء المرحلة التي قبلها ؛ باستخدام نفس الأساليب ،واتباع نفس العقليات التي كانت سببا لكل النكبات والمأسي التي حلت بنا .

مثلت العقلية المتطرفة عقبة كؤود في طريق بناء الدولة اليمنية الحديثة ؛ لعجز هذه العقلية عن التعاطي مع فكرة الدولة ككيان يمثل كل المجتمع ، والانخراط في العمل السياسي وفقا لقواعد المواطنة المتساوية ، والتنافس الشريف بطرق ووسائل عصرية .

لمّا رأت هذه العقلية المتطرفة أن وزنها الاجتماعي ومشروعها السياسي لايؤهلها للوصول أو الاستمرار في الحكم لجأت إلى تجريف المجتمع من القوى المدنية والسياسية، وإفراغ المجتمع من كل القوى التي لاتؤمن بمشروعها، ولا تدين بالولاء لها ، من خلال قتل وسحل الخصوم السياسيين ، والتنكيل بهم وتشريدهم ، وإتهام هذه القوى بأبشع التهم ، ووصفها بأقذع الأوصاف ، من خلال استغلالها مقدرات الدولة ، في حسم معركتها مع الخصوم السياسيين؛ لتبني على انقاض قوى المجتمع مشروعها المناطقي أو المذهبي، لاخضاع المجتمع للمنطقة أو المذهب ، في مسلك لايتوافق مع النواميس الاجتماعية ، والممارسة السياسية السوية لإدارة الدولة ، و لا مع روح العصر .

كانت النتيجة لهذا السلوك الأرعن هي الصراع في كل مرة ، وانفراط عقد الدولة ، وتدمير مؤسساتها ، وإهدار طاقاتها ، وتبديد جهود الأجيال في الصراعات الداخلية بدلا من تسخيرها في البناء والتنمية ، وفقدان الثقة بالدولة ومؤسساتها ، وعدم احترام شخوصها ، والوصول بالعلاقة بين المواطن والدولة إلى حالة العداء و القطيعة ، فلا يدين بالولاء لها إلا من حولته سياطها إلى مركب ذلول تمتطيه ، أو تألفته بشيئ من عطائها مقابل مايقدمه لها من خدمات .

عادت هذه العقلية بالدولة إلى طور القبيلة الأوّل حين كانت تعيش على الغزو وأعمال الحرابة ، وقطع السبيل ونهب مال من لايقوى على المقاومة ، ليقوم بعدها بإنفاق ما نهبه على أضيافه فتسير بخبر كرمه وجوده الركبان ، ولو كلفوا أنفسهم عناء السؤال عن المال الذي انفقه ، من أين اكتسبه ؟ لوفروا على أنفسهم عناء التغني بمكارم اللصوص والسير بها بين الناس .

أدىّ الجهل بأفراد المجتمع إلى ممارسة دور الأضياف الذين نظروا إلى صنيع الإعرابي نظرة عابرة لاتتجاوز حاجتهم إلى ما يسكت أصوات إمعائهم الجائعة ، ومايقي أجسادهم برد الليلة الشاتية، فألجأتهم الحاجة إلى النظر للجزء الممتلئة ، دون النظر إلى الجزء الفارغة فشهدوا له بالكرم والمرؤة ، ولو نظر إلى الجزء الفارغة لعلموا أنهم قد يكونوا فريسته في المرة القادمة ، وأن ثمن متاعهم سينفقه على أضياف غيرهم ؛ وسيجعل الأضياف من مظلمتهم محمدةً يسيرون بها بين الناس كما فعلوا هم بعد خروجهم من خيمة الإعرابي .

حين تتخذ القوى المتطرفة من إشباع شبقها السلطوي مشروعا سياسيا لها ، وحين تبني الجماهير مواقفها على ردود الأفعال العابرة ، يتحول المشروع السياسي إلى خطاب أجوف كالطبل الذي لا يصدر عنه سوى الصدى ، فيخدش حياء المكان ، ويعكر صفاء السكينة، نتيجة لتبنيها خطابا متشنجا ، وخيارات آحادية معتمدة على سياسة تخوين المخالف ، والحاق العيوب والمثالب بمن يقف في طريقها ، وفقا للسياسة الفرز التي تتبعها في التعاطي مع مكونات المجتمع ، واتباعا لقاعدة الولاء القائمة على سياسة لا أريكم .

مقالات الكاتب