صمتت القيثارة .. ابوبكر سالم بالفقيه

التقيت الراحل الكبير الفنان أبو بكر سالم بلفقيه (رحمه الله) لأول مرة في عدن، التي أحبها وظل يحبها الى الأبد أثر عودته اليها في سنة 1984 بعد غياب طويل ... طويل...
من هذه المدينة انطلقت شهرته التي طفقت الآفاق، وكانت عدن التي جاءها من مسقط رأسه (تريم) الغنَاء بحضر موت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي صانعة المشاهير مثلما كانت بيروت والقاهرة، فكانت محطته الأولى التي حملته على أجنحة المجد ليس إلى اليمن وحدها بل الى الخليج والجزيرة وبقية الوطن العربي.
كانت فر حته بالعودة الى عدن عظيمة، مثلما كان فرح واستقبال الناس له كبيراً، مسؤولين وكتاب وفنانين وجماهير.

كانت عودته من أيام عدن المشهودة، كيف لا وقد عاد طائرها المهاجر الذي ظل في وجدانها كما ظل هو في وجدانهم طوال كل هذه السنين وكأنه لم يغب عنها وعنهم قط وكان صوته وغناؤه أنيسهم في كل وقت.. كان أبو بكر طوال الرحلة التي حملته الى عدن يردد باشتياق أغنيته التي غناها قبل سنوات (بالله ياطيار عجل بالمسير.. شمسان دا بعده على قلبي عسير).. كانت الآن لسان حاله ويستعجل الوصول الى عدن..
أتذكر أن عودته صادفت عيد الأضحى المبارك وحظيت عودة أبو بكر سالم الفنان والانسان باهتمام على أعلى المستويات وعلى المستوى الشعبي. كنت يومها رئيس الدولة في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، دعوت فنانا الكبير الى حفل غداء في دار الضيافة في الرئاسة حضره كبار المسؤولين وأدباء وكتاب وفنانون ومدعوون من مختلف شرائح المجتمع تكريماً له. وعقب الغداء كما هي العادة (مقيل) وقد أجلست أبو بكر الى يميني.. كان الضيوف يتوافدون للتهنئة بعيد الأضحى كما جرت العادة في السنوات الأخيرة. أتذكر لحظة دخول الفنان الكبير محمد مرشد ناجي وهو قامة فنية كبيرة، حيث نهض الجميع وأخذ يسلم عليهم باليد، وعندما وصل الى حيث أقف سلم علي وقدم لي التهنئة بالعيد لكنه لم يسلم على أبو بكر الذي كان يقف الى يميني ، وتجاوزه للسلام على الآخرين مع أن المناسبة والصداقة التي تربط بينهما منذ قدم المرشدي الفنان الشاب أبو بكر سالم في حفل له في عدن لأول مرة في الخمسينيات من القرن الماضي.. وعودته بعد غياب طويل وكون أبو بكر ضيفي كلها تقتضي منه غير ذلك. كان الموقف محرجاً وقد لاحظ الكثيرون ذلك. عندما جلسنا التفت الى أبو بكر وشاهدت على وجهه حبات العرق ووجهه محمراً. سألته عن السبب الذي جعل المرشدي يتصرف على هذا النحو؟؟ فأجابني:

مجرد خلاف قديم..... ماكنت أظن أنه لايزال يتذكر ذلك!!!
المرشدي بعد أن أنهى السلام على بقية الضيوف اختار الجلوس أمامنا لكني دعوته للجلوس بقربي وأجلسته على يساري فيما أبو بكر على يميني. وتحدثت معهما بلطف وبطريقة ودية دون أن يسمع الآخرون ودعوتهما الى تناسي خلافاتهما واتفقت معهما أن يسلما على بعض في نهاية الجلسة (المقيل).. وفعلا ضج الحاضرون بالتصفيق عندما قاما وسلما على بعضهما وتعانقا وكانت تلك لحظة نادرة ومؤثرة ولكن أحداً من الحاضرين لم يعرف السبب..
ومما اتذكره عن تلك الزيارة في جلسة أخرى أن أحد المسؤولين الذين لايعرفون تاريخ الرجل وفنه ومكانته بين الناس طلب من الفنان أبو بكر أن يغني أغنيته المشهورة التي يقول فيها (كل شئ معقول.. كل شي مقبول.. كل شي إلا فراقك ياعدن) لكنه اعتذر بلباقة لأن الجو لم يكن مهيئاً للغناء ولم يكن عوده معه وكانت الجلسة ودية وقال له أنه لم يعد يتذكر كلماتها فقال له ذلك المسؤول بطريقة غير موقفة (نسيتها كما نسيت وطنك)!!
هنا رد عليه أبو بكر : أنا مانسيت وطني ولانسيت عدن التي غنيت لها وأحببتها وأحببت شعبها الطيب، ولكن تصرفات البعض هم الذين جعلوني وغيري نترك عدن ولكننا لم ننسها ولم ننس وطننا أبداً فهو في قلبي ووجداني. وأضاف:
لولا هذا الرجل (ولفت نحوي) الذي أعاد البسمة والروح الى عدن لما وجدتني الآن هنا في عدن.
لعدن غنى أبو بكر بلفقيه  كما لم يغن لمدينة: (ياطائرة طيري لابندر عدن.. زاد الهوى.. زاد النوى.. زاد الشجن..  عالبعد ما اقدرش أنا... ع الهجر ما أقدرش أنا.. أشوف يومي سنة.. دي جنة الدنيا حوت كل فن) وغيرها من الأغاني الخالدة. كما غنى للوطن والمئات من الأغاني العاطفية والوجدانية ونال جائزة أفضل صوت عن أغنيته (أقوله أيه) من كلمات وألحان الشاعر الكبير حسين أبو بكر المحضار..
أقام أبو بكر عدة أيام في عدن حضر خلالها زفاف ابنته (انغام) وأقام حفلاً غنائياً في المسرح الوطني بالتواهي امتلأ عن آخره بالحضور من كلا الجنسين،وأجرى معه تلفزيون عدن لقاءً تاريخياً أداره الاعلامي أحمد ناصر الحماطي وطفرت عيناه بالدموع وهو يستعيد ذكرياته في عدن وعن عدن. وتجول في المدينة وشواطئها الجميلة والتقى بعشرات الناس من محبي فنه كما سافر الى حضر موت وأقام حفلاً فنياً في المكلا وغنى خلال تلك الحفلات كما لم يغن من قبل.. كان الآن يغني في وطنه وبين أبناء وطنه بعد سنوات طويلة من الغياب.
استمرت لقاءاتي بعدها بالفنان الكبير  وتواصلت اتصالاتنا، وكان يحرص أن يهديني احدث اغانيه. لانه كان يعرف كم أحب صوته وأغانيه.. كما أحب أشعار  المحضار  وأغانيه التي جعلت منهما ثنائياً ناجحاً طوال عقود مثلما هو الحال للطفي جعفر  أمان وأحمد قاسم، وعبدالله عبدالوهاب النعمان (الفضول) وأيوب طارش، ومصطفى الخضر ومحمد عبده زيدي وغيرهم.
كنت أتابع باهتمام وقلق رحلته الأخيرة مع المرض.. وعندما بلغني نبأ وفاته شعرت بحزن عميق. لقد صمتت القيثارة التي ظلت تعزف بأشجى وأعذب الألحان في الزمن الجميل طوال أكثر من ستين عاماً، لكنه سيظل حياً بأرثه وصوته الذي لا يُبلى في قلوب الملايين من محبيه وعشاق فنه، وقد قدمت واجب العزاء لأبنائه أصيل وأديب وأحمد وكافة أفراد أسرته، تغمد الله فقيدنا أبو بكر سالم بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته.

مقالات الكاتب