لقد قابلت إبراهيم

بينما كنت أعبر موقف سيارات أحد مراكز التسوق بخطوات مسرعة تقاوم سرعة البرد الذي ترتعد له فرائص جسدي، سمعت منبه سيارة يتخلله نداء رجل يقول "هيي.. مريم". توقفت فورا لأعرف من المنادي..
فإذا بصور قصر رجت أركانه من هول صاعقة ألمت به وهي تتراقص أمام ناظرَيّ، وحناجر جماهير باكية تصرخ "مات الملك.."، وصوت من سكنت نبرته وجدان المغاربة الصحفي مصطفى العلوي يؤكد " لقد مات أب المغاربة..".
 
الملك الذي نُقِل في صمت وعلى حين غرة إلى مستشفى إبن سينا في الرباط وطلبه الوحيد هو بذلة المريض وقرآن يتلوه وعزلة عن أي أحد.
وفي ممر إدارة مدرسة غوته الإعدادية في بلدة ديبورغ في فترة عطلة الصيف من نفس العام كنت أسير رفقة والدَيّ خلف مدير المدرسة إلى مكتبه. لا أزلت أذكر التفاصيل كما لو أنها حدثت البارحة.
المدير: تفضلوا بالجلوس سيد عرجون أنت وحرمك.
ـ شكرا لك سيدي المدير
ـ إسمي سيد فوكس (ثعلب)...
إذن أنت تلميذتنا الجديدة...مباركا لكم أيتها الصغيرة.. لديكم ملك جديد وهو شاب.. فهل أنت مسرورة..؟
نظرت إلى أمي وأبي أطلب النجدة فللمدير هيبة.. فقالت لي أمي قولي له نعم.. هززت رأسي خجلا وارتباكا..
أبي: نعم.. ستكون إبنة محمد السادس.. هذه هي الحياة سيد فوكس.. لكل شيء نهاية. أنا كنت إبن محمد الخامس والحسن الثاني..عشت فترة الاستعمار وعرفت زمن الصرامة. والآن حان الوقت لعهد مغاير. الملك الجديد ولد عطوف للغاية.. وأملنا فيه كبير، بالذات نحن في شمال المغرب.. فالوضع عندنا جامد على جميع الأصعدة..
ـ نعم سيد عرجون.. أتفهمك. لكن صغر سنه يجعله عرضة لتحديات كبيرة جدا.. وفي النهاية السياسة لا تنتهي بموت قائد..
ـ صدقني سيد فوكس.. الملك الجديد نموذج مغاير عن أبيه وأنا في اعتقادي أنه سوف يكتب تاريخا مميزا للمملكة ومختلف عن من سبقوه..
 
ـ إذن لنر ما تخبئه لكم الأيام المقبلة سيد عرجون.. مع تمنياتي للمغرب بحظ سعيد.. أما بخصوص صغيرتنا هذه.. فبعد بدء أيام الدوام الدراسي سوف نأخذها مع التلاميذ الجدد، وبمقدورها دائما القدوم إلى مكتبي في وقت الاستراحة إذا ما احتاجت إلى أي مساعدة... تذكري باب مكتبي جيدا.
نظرت إلى صاحب الصوت المختلط مع نفير السيارة، فإذا بإبتسمامة عريضة ترتسم على محياي وأنا أقول بصوت مسموع "إبراهيم.. أهذا أنت...؟ ظننتك رحلت عن ديبورغ.. كيف حالك ؟"
ـ بخير.. أنا لازلت هنا.. مختف بسبب العمل.. لا أتي إلا للمبيت تقريبا..
ـ وما هذه السيارة الجميلة..؟؟ تبدو جديدة..
ـ نعم.. اشتريتها قبل أشهر...
ـ هنيئا لك بها....
 
هل تعلم.. كلما رأيتك .. قفز أمامي تاريخ ما يقارب عشرين عاما.. بدأ من وفاة الملك الحسن الثاني وتولي ولي العهد لعرشه مرورا بانتفاضة الأقصى وهجمات الحادي عشر من سبتمبر إلى حرب العراق.. لتبدأ حروب وثورات لا نعرف أهي حقيقة أم أكذوبة..
ـ هذا لأننا نعرف بعضنا منذ عشرين عاما، ولأننا المهاجرين أشد متابعة لأحداث العالم. نحن الجيل ذاته.. لكني أكبرك بسنة على ما أذكر..
ـ نعم.. نحن أبناء العالم....
هل تذكر الفصل والتلاميذ.. كنت أكثرهم حنانا وعفوية وأكثر من كان يعجبني طبعه.. لا شرقي ولا غربي...
ـ لكن أيوب كان طييبا ..
ـ إلكر كذلك..
ـ نعم.. ذلك الشاب نشيط وقد تمكن من أخذ حياته في قبضة متينة.. لكنه "متألمن" نوعا ما.. وهو ما يغير كثيرا في نوعية المستقبل..
ـ لا ليس كذلك.. بل لأنه علوي.. وكما تعلم.. الأتراك العلويون أكثر تمدنا وتحضرا من الآخرين.. تماما كأقباط مصر ومسيحيي لبنان.. فحين كنت في مصر وجدت المسيحيين أصدق وأرقى، وأسمع من لبنانيين يعيشون هنا في ألمانيا أنهم يميلون هناك إلى السكن في أماكن المسيح لرقيها وتحضرها، وفي كل مكان.. كلما اقتربت من المسلمين تجد أنك تقترب من العته..
 
 
ـ نعم.. أنت محقة.. أعلم ما تقصدين..
ـ هل تذكر معلمنا السيد أسود.. كنا نضحك كثيرا لإسمه. فقد كان شعره شديد البياض وبشرته أيضا وألوان قمصانه أغلبها بيضاء.. فكيف به أسود..
ـ نعم.. لكني لم أكن أحبه.. لقد كان يهوديا يتهكم علينا نحن المسلمين..
ـ أذكر أنه كان لطيفا.. وكان يضحك دائما.. بل وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر قال لنا "أنتم مسلمو ألمانيا.. لا تخشوا شيئا.. لن يضايقكم أحد.. لن يؤذيكم أحد.. ربما يحدث شيء من هذا قبيل في العاصمة لأنها تستقبل الأحداث بشكل أكثر تضخيما.. لكن و بشكل عام تستطيعون أن تطمئنوا ... بالمقابل أنا على يقين من أن أياما سودا سوف تلحق بمسلمي أمريكا"..
 
بالنسبة لتهكمه فليس لأننا مسلمون.. بل لأن الآخرين كانوا يحملون طبع القرويين الجُهَل الذين يفتقرون إلى الأدب وحسن السلوك.. فالحمد لله أنه علمنا.... هل تذهب إلى تركيا.. ؟؟
ـ لا.. أنا أبتعد عن تلك الجهة برمتها.. لا أريد المزيد من العقد.. إن فكرت في السفر، اخترت أماكن وجدت فيها البشر.. أهم شيء لدي هي روح الإنسان..
ـ لقد تغير الشرق منذ أن ذهب صدام..
ـ لكن طباع سكان تلك المناطق ليست مرهونة بزعيم.. هم يميلون إلى التصنع والكذب والنفاق دون أن يتطلب الأمر منهم ذلك.. لذلك فقط الإنسان هو من يعنيني وإليه فقط أرحل..
ـ أين تعمل...؟
ـ في شركة في المحافظة المجاورة
ـ هل تحب عملك فيها؟
ـ راتبها جيد..
ـ لقد أضحكتني.. فعلا على الأقل إن لم تشبع الروح شبعت المحفظة..
ـ هل أنتظرك أم أوصلك..
ـ لا.. لقد اشتريت ما أتيت من أجله.. وكلها خطوات وأصل الى البيت..
ـ اعتنِ بنفسك، سأنصرف لأن لدي موعد..
ـ وأنت كذلك.. إلى اللقاء..
 
 
شغَّل إبراهيم محرك سيارته وذهبت أنا مع كلمة روح الإنسان... أيا ليت قومي يعلمون أنهم ليسوا شعب الله المختار وأنهم كانوا وليسوا خير أمة وأنّ الله يؤتي الخير لمن أراد الإصلاح ولمن عاش للإنسان فمن أحياه كأنما أحيى الناس جميعا.. وليست الحياة بنفس نتنفس بل بأخلاق نفسها الصدق والضمير وروح تحمد الله على نعمه.
"حضرات السادة..نشر تعاليم الدين الإسلامي لن تتم إلاّ بالعقل والتعقل، والعلم والمعرفة والإشعاع الروحي والبشري والتسامح.."
رحمك الله أيها الملك الأب..

مقالات الكاتب