الرّائعون في البداية

ـ سيدة مي زيادة... أنا طه حسين و بودي زيارتك غدا..
ـ لا يا سيدي..
ـ إذن متى أزورك؟
ـ لا تزورني أبداً..
ـ لماذا يا سيدتي؟؟
ـ أتريد أن تعرف السبب حقا؟؟!
ـ نعم...
ـ لقد قررت أن لا أقابل أحداً من الناس إلاّ رجال الدين... فإذا أردت أن تراني فكن قسيساً...
ـ سيدتي.. يعز عليّ ألأّ أراك ويستحيل أن أكون قسيساً.
(إنتهى)

"الجو بارد هذه الليلة والمطر الشديد.. يالا لياليك يا ديسمبر.. أخيرا وصلت.."
في مقهى زيينت طاولاته بالشموع الحمراء وتحت إضاء خافتة المنبعثة من زواياه، وعلى أنغام معزوفة بآلة الكمان المرفقة بأصوات همهمات الحديث و إيقاعات السكاكين و الشوك فوق الأطباق و الملاعق في جوف الفناجين. رأته أمامها على الطاولة المقابلة و هي تطالع قائمة الطلبات. نظر في عينيها بدقة و تفرسها بأكملها، ثم أدار وجهه كأنه لا يعرفها.
تذكرته كيف كان يطاردها لمدة عامين هنا وهناك، و أنها إن لم تكن له فالموت نهايته لا محالة. أين ذهب كل هذا ؟!
ذهبت بذكرياتها و هي تتذكر الأخر الذي كان يحاول مرارا و في كل مرة الحديث عن رغبته في علاقة معها، و كيف أنها حاولت تجنب خسارة صداقته، و كيف أجابها ذات يوم حين أراك في المرة المقبلة سوف أخبرك ما لن تصدقيه. و جاءت المرة المقبلة. قال لها انظري أنا أب و هذه زوجتي أنت مصعوقة الآن أليس كذلك. باركت و هي تبتسم للسريرة ما عرفت الود اليوم. تذكرت الأخرى التي قيل لها أنت الحلم و أنت حب العمر و أكمل و أنت التي يمكن لها أن تكون واجهتي في حفلات المجتمع الراقي. تذكرت التي قيل لها أنا إتخذ قرار الارتباط بك إلا أنه لدي بعض الملاحظات، فأنا لا يعجبني كذا و كذا و كذا، لتجيبه و أنت كلك لا تعجبني. و تذكرت تلك التي قيل لها لدي المال و الجاه و ينقصني قطعة إكسسوار و تذكرت و تذكرت...
يا إلهي... كم من حب و موت و ضياع يوجد في البداية...و كم من كذب تخفونه إلى النهاية.
تذكرت السيدة التي طاردها أحدهم لمدة عام بأكماله فإما هي أو الموت. و بعدما قبلت به لحب قد لا يتكرر، و بعدما أصبحا تحت سقف واحد، تغير و أصبح الحب انتقاما و غدت هي الموت... تذكرتها و هي تسألها لماذا تغير..؟ لماذا لم يبقى رائعا كما كان في البداية ؟.
لا... هو لم يتغير.. هو فقط أفصح.. كهذا الذي لم يعرفني.. هو فقط عرّف بنفسه.. و الليلة اكتملت جملته. فقد قال الأول لا أريدك أن تكوني لأحد أبدا ثم ذهب. و قال الثاني أريدك أن تتزوجي في أسرع وقت ممكن. التفت الأول و قال لأن ما من أحد يستحقك، و أكمل الثاني و أن يذيقك وابل من العذاب.
سمعت صوتا مفاجئ يقول "ماذا قررت السيدة أن تطلب؟". نظرت إلى صاحبه بعدما أفاقت من شرودها. كان النادل. شاب ظريف و بشوش، ابتسمت له و قالت "فنجان حليب أبيض..."

فراشة الأدب مي زيادة كانت معشوقة زمانها من أغلب رواد صالونها من الأدباء و الصحفين و السياسين و النخبة الاجتماعية. 
و بين ليلة و ضحاها وجدت نفسها في مصحة للمجانين دون أن يأبه لها أحد. بعدما أودعها أحد أقربائها فيها ليستولي على ميراثها إثر سوء حالتها النفسية لفقدانها والديها و جبران خليل في آن واحد. لتدرك متأخرة حجم الكذب و روعة بدايات المحبين التي كانت محاطة بها سنين طوال.
و بقيت لنا ذكرى قرار المكالمة الخالدة " لقد قررت أن لا أقابل أحدا من الناس إلاّ رجال الدين..."

.....و لا حتّى رجال الدين يا مي... فكلهم رائعون في البداية.

مقالات الكاتب