ذكريات لا انساها

 
عندما كنت طفلا في مدينة الشيخ عثمان ... كنت اخرج من منزلنا الصغير قبل اذان المغرب، و كل بيوت العاصمة عدن صغيرة جدا الا ما ندر ... فكنت ارى بيوت الجيران بيت المخضري ، بيت الخليدي ، بيت الدبيني ، بيت مقبل، بيت العوذلي، بيت الحاج علي عاطف اللحجي، بيت بقيشات، بيت مصعبين، بيت ثابت المحلوي، بيت المقطري، بيت عبده حسين، بيت مصبح ... الخ الخ الخ، و ذهبت الى المدرسة الشرقية في الشيخ عثمان، التي لا تبعد كثيرا عن منزلنا، و قابلت في المدرسة فؤاد و فيصل و خالد و عبدالله و محمد و علوي و عثمان، و طه و..و..و... و هكذا كبرت و كبر اصدقائي معي.
...
لم اسأل احدا منهم، و لم يكلف احد نفسه بسؤالي من اين انت، او من اين ابوك ... او ما هو أصلك
...
و في الستينات عندما انتقل والدي من سوق الشيخ عثمان الى المنصورة، و انتقلت الأسرة للعيش في مدينة المنصورة، رأيت جيرانا جددا يأتون الى حارتنا الجديدية في بلوك 24 شارع الشبوطي و عرفت بعض الجيران الجدد بيت قائد علي، بيت عبد ربه، بيت البعم، بيت طاهر، بيت الريمي ، بيت السيد حسن، بيت بن عرب "وزير الداخلية سابقا"، بيت باجراد، بيت السيد، بيت ماطر، بيت قائد اليافعي، بيت نبيه، بيت الحجة شيخة الحضرمية، بيت عبداللطيف الهندي، بيت ديان و بيت راوح و بيت هاشم و ابنهم شكري، و جيرانهم بيت الهندي النظيف جدا .... و كثير لا اتذكرهم، و لكننا في هذه المرحلة نضجنا، و اصبحنا نعرف كل اسرة من اين اصلها تقريبا من الأسم، و لم يكن يهمنا هذا في شيئ.
للأمانة لم نفكر بها نحن ابناء الخمسينات، و كنا نعيش متحابين متآلفين متآخيين ... كنا نعرف اننا عيال الشيخ و بس، لم نكره احد بل اختلطنا ببعض ... و تزاوجنا، و بدأنا نعرف و نحن صغار انه في عوالم آخرى بعيدة قليلا عن الشيخ عثمان ... فسمعنا عن كريتر و المعلا و التواهي و البريقة و القلوعة و خور مكسر و لم تكن المنصورة موجودة قبل الستينات.
تزوج عمي المرحوم بإذن الله صالح جارالله من احدى انسات مدينة كريتر... فأتذكر عندما سألته في احدى ليالي رمضان :"ياعم كم استغرقك الوقت علشان توصل كريتر؟" ... فقال لي مش بعيد كثير ، و اوعدك آخذك كريتر قبل العيد" ... و فعلا اوفى بوعده و رأيت كريتر ، كنا نسميها "عدن" ، و انذهلت عندما كان يشرح لي عن اسماء حوافي "شوارع" مدينة كريتر، كانت اسماء لم تخطر لي على بال، فكانت اسماء مثل حافة اليهود و حافة الصومال، حافة البهرة و سط كريتر و حافة البينيان و حافة الفرس و حافة الكوشوس و من جانب آخر حافة الجبرت و حافة البوش، و اصحاب المهن مثل حافة الحدادين و الدرازية و النجارين و الحلاقين و الدوابية و الطعام الخ الخ الخ
...
اسماء تكررت في كل احياء محافظة عدن ... و اشكال من الناس من كل مكان ... الجبلي كما كنا نسمي ابناء الشمال اليمني، و البدوي الآتي من مناطق دولة اتحاد الجنوب العربي، و الحضارم ، و الصومال ، و الافارقة و خاصة من مصر العربية، و الهنود و الفرس .... الخ الخ.
عاش الجميع مع بعض و تداخل الجميع مع بعض ... و تزاوج الناس و تكون شعب في محافظة عدن سُميّ بأبناء عدن، او العدانية ... و انتصرت ثورة 14 أكتوبر و نادى المنتصرون بوحدة اليمن، و كنا طيبون فرحنا و رقصنا في الشوارع من أجل الوحدة ... الا ان هذه الوحدة انقلبت الى غم على الشعب، و ابتدأ الناس ينظرون اليها على اساس انها وحدة فيد... و قام الشمال بغزو الجنوب في 1994، و أكد إحتلاله الجنوب ... و حاربها مرة أخرى في 2015، و لكن اهل الجنوب وقفوا لهم وقفة رجل واحد و طردوهم من العاصمة عدن بدراما لا يمكن ان يصدقها احد ... و هذا سنتحدث عليه في موضوع آخر.
الا أن ما يؤلم عدن و أهلها ان تأتي بعض الخلايا النائمة، و يصرخ أحدهم دون خجل: " لقد قررت ان اخلع ردائي الجنوبي" ، قرر ان يتخلى عن جنوبيته لما رأى المقاومة الجنوبية تستبسل في الدفاع عن عدن، مثل هذا الرخيص اخافني ان كل ابناء الشمال الموجودون بيننا سيتذكرون ان اجدادهم من الشمال و سيتطعاطفون معهم، و لكن اتضح لنا على العكس ان الكثير منهم احبوا عدن بصدق لانها احبتهم بصدق، و بادلتهم الوفاء بوفاء.
...
سألت احد اصدقائي من جيلي بعد الحرب في عدن، و عرفت انه من أصول شماليه عندما كنا في الثانوية، و بعد الحرب سألته:
كيفك يا صاحبي؟ و فين ودتك الحرب بين الشمال و الجنوب؟ قول لي بأمانة انت فين واقف ... تعرف يا ..... اعرفك في عدن منذ أكثر من 47 سنة .. و نحن مع بعض ... اريد اسمع رأيك الآن.. و لا تهددني ان اصولك عزعزي تضربني بعين.. اعرف ما بتسخى على صاحبك ... بس سؤالي الآن انت فين؟ عدني او تعزي؟ جنوبي او شمالي؟ موجوع او مش موجوع؟
رد عليا:
عزيزي علي لوا قالوا يا انفصال بابصم بالعشر بعد اللى شفته و لو اني عند رفع علم الوحده تصدق اني بكيت و الله من الفرحه لاني لم اكن اتصور اني باعيش الوحده لكن بعد اللى شفته يلعن ابو الوحده احسن نعيش الانفصال و نحن نحب بعضنا بعض و لا نتوحد و نتقاتل.
"هذا كان رد صاحبي"
هكذا هم الرجال الاوفياء ... كلنا فرحنا بالوحدة، و كلنا بكينا من الوحدة ... جبرت بخاطري الله يجبر بخاطرك، و يخلّي لك اهلك و اولادك...
سيبقى اهلنا ابناء الشمال سابقا هم جنوبيين بإمتياز لانهم عاشوا معنا ، و صرنا اهل، و تزاوجنا و اختلطت دمائنا ببعض و لن يفرق بيننا الا الموت، اما من جائنا مع جحافل الجيش الشمالي في 1990 و في 2015 و استوطنوا بلادنا فلا هم مننا و لا نحن منهم ... و لن نعتبرهم جنوبيون و سيخرجون من بلادنا مهما طال الزمن، لان ثلاثة ارباعهم من القوى الأمنية و العسكرية التي قتلت اهلنا في 2015.
علي محمد جارالله
28 مايو 2018

مقالات الكاتب