بقلم : عبدالقادر زين بن جرادي
أوردنا في الجزء الأول من ملحمة النصر النوايا المبيتة داخليا وخارجيا تجاه الكيلومترات الهامة المتبقية تحت سيطرة أشاوس ونمور المقاومة الجنوبية على أرض عدن الحبيبة . لقد تبين الرشد من الغي ، وانبلج ضوء الفجر على حقائق ما يجري على أرض عدن ، فأما أنطلاقة واحدة تحالفية جماهيرية جنوبية ، وأما جر أذيال الخيبة والرضوخ لما تقتضيه مصلحة الأكله على اللقمة الدسمة المعجونة بالمن والسلوى ، والمطبوخة على النار المجوسية المقدسة ، ليتخاطفها الأكله هنيئا مرياء . والذي سيكون لها عواقب وخيمة ليس على الجنوب وشعبه فقط بل على المنطقة ودول الأقليم . وحان دور داهية الجنوب العسكري ، في لم الشمل وترتيب أوراق المقاومة ، ووضع أدهاء الخطط للخروج من عنق الزجاجة ، والأنطلاق بقوة مصحوبة بحنكة عسكرية تميز بها ، تعلمها من مدرسة أبن الوليد . وقف في راس عباس بعد نصر التصدي لهجمات ( ٧ / ٧ ) ، الذي رفع من معنويات المرابطين ، المتحفزين للإنطلاقة الهجومية ، وقف على كثيب رملي صغير تحت ظل سمرة ظامرة الأغصان ، فهتف في الناس ونادي من نادي في كل أرجاء الجنوب ، أن صلاة العصر جامعة على ساحل البريقة . فتهافت الناس ملبين مسرعين ، منهم من أتى على موترة ، ومنهم على دابته ، وأخرون أتوه مشيا على أقدامهم ، واقف شامخ شموخ النخلة السحوق ، ينظر إلى الشعث الغبر ذات الجباه السمراء، ظامري الأجسام من الجوع والعطش ، غائرة عيونهم من السهر لليالي طوال ، في متارس ثغور الجبهات . وهؤلاء الشيوخ الكهولة بعثنون لحائهم البيضاء ووجوهم الورعة ، متكائين على عصيهم ، وفي صفوف الكل أطفال بأيادي بعضهم سلل يحملونها تحوي ما جادة بهن أيادي الأمهات ، والخوات ، والبنات ،الحرائر المحصنات العفيفيات من بعض ما ادخرتة مطباخهن من الطعام ، وهؤلاء تجار الجنوب قد حملوا مركباتهم بالمؤنة والغذاء والماء ، وفي جيوبهم أكياس مما تيسر من حر مالهم ، وكوكبة من أمهات وخوات وبنات الرجال الأشاوس ممن أبائهن وبعولتهن وأخوانهن وأبنائهن في مختلف الجبهات حملنا على رؤوسهن الطاهرة ما استطعن حملة ليضعينه بين يدي القائد دعما وسند وجهادا في سبيل لله . راقت العيون بالدمع يتحدرين على الخدود لمنظر يوما ، أشبة بيوم تجهيز جيش العسرة في عهد خير من جاهد في سبيل الله وغبر قدمية الشريفتنا في سبيل نشر كلمة الله وراية الحق . آيها الناس قالها بصوته الجهوري مخاطبا معشر الحاضرون جميعا ( لقد تكالبت عليكم الأمم فأما أن نعيش على تراب هذه الأرض الطاهرة آسياد وأما أن نموت فوقها شهداء ، واعلموا أنكم بصمودكم قهرتم العدو وكسبتم الصديق والحليف ، وأن النصر لايتم ، ألا أذا توحدت صفوفكم ، وأثرتم الله والوطن على الحياة ، فأنظروا إلى أعراضكم ، وأرضكم ، وأموالكم ، أن أردتموها حرة لكم خالصة ، فلن تنالوها ألا بوحدتكم ، تناسوا ، أنتمائاتكم والوانكم ، وخلافاتكم ،واسموا فوق جراحكم تنالوها ، وأن بقيتم غير ذلك فأنتم ، وأرضكم ، وأعراضكم ، وأموالكم ، ستكونون غنيمة لهم ، تعيشون في ذل لا ذل بعده ) . فهتف ذالك المجاهد ذات القدم المبتورة الذي يقبض بيدة سلاحة وبالأخرى عكازة ، وأجابه ذلك الشيخ الطاعن في السن ، والغلام صغير السن ، وأم الشهداء ، أجابوه بصرخة واحدة ، نعاهد الله ، والوطن ، ونعاهدك ، بأننا لك سامعين مطيعين ، استعرض بنا رمال البيداء ، أو أمخر بنا عرض البحر ، فلا نخالف لك أمرا ، ولو شئت نبايعك فأبسط يدك لنضع أيادينا فيها ويد الله فوقهن جميعا . لقد التهبت المشاعر وزاد التلاحم ، فأيقن أن النصر لقادم ، فعاد من لم يجد عند القائد الهمام ما يسلحه فيه والأعين تفيض دمعا . أنه لمنظر تقشعر له الأبدان ، ويغمر القلوب بالفرحة ، وتذرف له العيون الدمع ، يبعث في الوجدان الأمل ، ويجعل النفس تواقة لبشائر النصر . لقد بلغ صدى يوم البيعة والتعاقد أصقاع الأرض . فلبى من حبسهم حابس الفيل من أبناء الجنوب في المهجر لبوا النداء وسارعوا يجمعون ما استطاعوا جمعه من المال لشراء العتاد ، والغذاء ، والدواء ، والكساء ،لبوه جماعات وأفراد ، فتاجروا مع الله وجاهدوا بأموالهم فلنعم التجارة ولنعم الجهاد ، فتكاتفت الجهود في الداخل والخارج ، في كل الجبهات كانت القلوب متحدة ، والرجال مرابطين ، ونظرات الصقر تحوم وتجول في كل الجبهات ، ليضع الخطط ، ويجهز المقاتلين ، ويعين القيادة . والكل قد هياء نفسة ونسج كفنة واتخذ من تراب الطاهرة عدن حنطة . لم ترهبهم أرجافات المرجفين الذين قالوا لهم أن الناس قد جمعوا لأستأصالكم واجتثاثكم ، سيخرجون لكم من كل مترس ، وينسلون لكم من كل نفق ، يذبحونكم ، ويستحيون نسائكم . فما كان الجواب الا ( حسبنا الله وكفى عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم ) . وهنا اختم هذا الجزء من ملحمة النصر وللحديث بقية عن ملحمة يوم النصر المبين فأنتظروا أني معكم من المنتظرين .