حين أشار موظف المطار إلى ميزان الأمتعة.
سألته كم كليو جراما من السعادة مسموح بأخذه إلى وطني؟
حملت حقيبتي الوحيدة، وانصرفت تاركا نظرة بلهاء مرسومة على محياه.
ها أنا ذا أتنقل بين المطارات، عائدا إليه، أكاد أشم رائحة ترابه، وأسمع صوت أناشيده ونداءات مآذنه.
هنا محطتي الأخيرة إليه، أشد يدي على حقيبتي، استعجل الخطى إلى سلم الطائرة، حيث تجسد الوطن في تلك اللحظة، في الطائرة وطاقمها وركابها، فرحت أمسح بناظري وجوههم، تبركا، وأقبل بعيني كفوفهم، بِرا.
ما إن استقريت على مقعدي، حتى تداعت ذكريات رحلتي إلى الغربة، تاركا خلفي وطن لم يفارقني طيفه قط، ولم تزدني غربتي إلا حبا له.
ولكن حين طُلب منا تعبئة بطاقات الرحلة، توقف قلمي طويلا عند خانة الجنسية، ماذا أكتب، وأنا أحمل في داخلي هوية، وعلى جواز سفري هوية أخرى، تكشف زيفها ملامحي؟!
لم يمض الكثير من وقت الرحلة حتى اكتشفت أن معظم ركابها عائدون من رحلة علاج، وأن الطائرة تحمل في جوفها ثلاثة نعوش، أما الركاب فكانوا يحملون نعوشهم في صدورهم. لوهلة شعرت أنني في موكب جنائزي وأنني في طريقي إلى مقبرة، فغاص قلبي عميقا بين أضلعي...
يستقبلك البؤس في المطار، يلوح لك، ويسلم عليك حين تطأ قدمك أرضه. ارتعدت ساقاي لكني، لم أسجد على أرضه كما كنت أتوقع، ولم أمرغ وجهي في ترابه. قبضت بيدي على حقيبتي، وبحثت عن صالة الوصول.
كان هناك... على عكازين، واقفا في انتظاري، ناجي، قريبي وصديق الطفولة، مبتور الساقين والحلم، مثل هذا البلد، ولأن الرؤية غير السماع، كان الوجع أكبر. عانقته طويلا، وبكيته وبكيت الوطن.
بدا لي متأقلما جدا، مع عكازيه، ممتنا لمن وهبوهما له، ناسيا أو متناسيا أن من أعطاه العكازين هو نفسه من سلبه ساقيه!
ودار في خاطري سؤال مرير ، كيف استطاعت الحرب أن تفعل كل هذا ؟
كان شوقه لي كبيرا، وفرحته لا توصف فتزاحمت في فمه الكلمات وتسابقت عنده المواضيع والحكايات. ولكن ما إن انحرف مسار الحديث إلى وضع البلد، حتى دخل في جدال عقيم مع سائق سيارة الأجرة، ذكرني بالنقاشات السياسية على صفحات الفيسبوك، فنسيني تماما، فركنت إلى صمت مطبق، ورحت أتأمل البؤس من زجاج النافذة.
للحرب بصمتها، بل وسمها، رأيتها في المباني، والطرقات، رأيتها في الوجوه، في أيد صغيرة ممدودة للتسول، وأخرى تمسح زجاج السيارات، رأيتها في فوهات البندقيات على أكتاف المدنيين، في زحام الشتائم وفي غياب إشارات المرور، وعندما أعدت بصري إلى داخل السيارة رأيتها في جسد ناجي وحديثه.
على مشارف مدينتي، تسارع نبض قلبي، أطللت برأسي، وعيناي تأملان عناقا مع الأشجار التي كانت تظلل مدخل المدينة، ولكن لم تجدها.
خمس وعشرون سنة كبرت فيها المدينة بما يكفي، كتل إسمنتية بشعة مدت ذراعيها على الأراضي الزراعية التي هجرها السيل منذ زمن، كما هجرت السعادة قلوب البشر.
تداخلت فيٍّ المشاعر، وأنا أستعيد ذكرياتي، أحاول التعرف على ملامح المدينة، التي لم تزدها الحرب إلا خرابا، ولم يزدها الزمن إلا شحوبا، فضاقت أزقة وشاخت حواري.
قبيل المغرب وصلت بيتنا القديم، على بابه، خفق قلبي بشدة، وخنقتتي عبرة. رغم سطوة الزمن والحرب، كان شامخا كأبي، حميما ودافئا مثل حضن أمي، وقورا كجدي، خاويا كما غادرته آخر مرة. تنقلت بين حجراته حتى شبعت، تأملت تفاصيله حتى ارتويت.
بقي ناجي معي حتى لف الظلام المدينة، استعدنا ذكرياتنا، وذكريات الحارة والمدينة كلها، ضحكنا، وحزنا، واسترسل ناجي في حديثه، ورحت أسأله عن سكان المدينة، بيتا بيتا، فردا فردا، وكأنما أريد أن أعوض غياب السنين في جلسة واحدة.
لكن نبرة الفرح في حديث ناجي غابت شيئا فشيئا، كلما بدأ يكشف لي حقيقة الأحداث التي عصفت بالمدينة، بل والبلد كله خلال سنوات غيابي، وكان أمرّها مرحلة الاغتيالات التي مرت بها المدينة، والتي كان فيها الضحايا والقتلة من أبنائها على حد سواء، كانت مرحلة الموت الأسود والصمت الأسود.. ثم الحرب، والأسوأ منها هذه السنوات.
انقطعت الكهرباء، لكنها لم تمنعني من رؤية دمعة ترقرت في عين ناجي، وهو يروي قصة إصابته، كما لم يحجب هدير المواطير عبرة اختنقت في صوته.
أدركت أن ما شعرت به في المطار من تأقلم ناجي لم يكن إلا محاولة منه للهرب من واقع لا يستطيع تغييره.
وها هو يحاول الآن تغيير الموضوع، قبل أن يغلبه البكاء، فسألني عن غربتي، كنت أنوي أن أحدثه عن مرارة الغربة ولكني آثرت الصمت فليس لما أقوله الآن أي معنى.
انقضى شوط من الليل ونحن ما نزال نتقاسم الوجع، بعد أن تقاسمنا عشاءً شعبيا أرسلته زوجته، وكان ذلك هو الشيء الوحيد الذي لم يتغير طعمه في هذا البلد.
استدرك ناجي تأخره، فاستأذن ليتركني أرتاح من رحلتي. ورغم أني طلبت بقاءه، لكنه أصر على الذهاب والعودة غدا. ربما أرهقته رحلة الذكريات التي أرغمته على السير فيها، أكثر مما أرهقتني رحلتي.
لم أستطع النوم، ربما بسبب انقطاع الكهرباء، أو ربما بسبب ما تركه حديث ناجي في نفسي، صحيح أنني لم أكن مغيبا عما يحدث هنا، في غربتي، لكن أن تسمع أخبار الوجع، يختلف عن سماع تفاصيله.
لا أدري لماذا توجهت لغرفة جدتي، ربما لأنها أكثر الغرف حميمية، بأثاثها الذي تجاوز عمره مئة عام، السرير الخشبي ذو الحصير، الذي كنت أقاسمها إياه لأستمع لحكاياتها، الصندوق الخشبي الذي طالما خبأت فيه أسراري، الفانوس الذي لا يزال غافيا في الكوة. تذكرت شغبي في فناء الدار، وتعنيفها، تذكرت قصصها، الخرافات التي كانت تؤمن بها، والأمثال التي لم تَغلب لتجد لها مناسبات لتقولها، برطمان جدتي المزركش الذي تضع فيه حلوى المضروب، الذي كانت تترك جزءا منه في سطح المنزل، وعندما أسألها لماذا؟ تقول لسعادة، ومن هي سعادة؟ _ذات مرة سألتها_ قالت إنها جارية دعا عليها السيد ذات غضب، فأصبحت من المخفيين، ومع أني كنت لا أرى غير الغربان والحدادي تتلاقف الحلوى، لكني كنت أصدق جدتي.
اشتقت للسطح وذكرياته، وزاد الحر والوحدة في رغبتي للصعود.
رحت أطل على المدينة الغارقة في الظلام، كانت الحركة قد خفت في الأزقة بشكل كلي، سحبت بصري بسرعة خشية أن تقع عيناي على بيوت الناس المكشوفة أمامي، فرغم أن المسافات بين القلوب تباعدت، لكن الجدران لا تزال تحتضن بعضها،
للحظة هيئ لي أن طيفا لامرأة على سطح جيراننا، اختفى بسرعة، شعرت بالحرج، ربما وجودي على السطح فاجأ الجيران، أطفأت ضوء مصباحي، ورحت أسامر النجوم، حتى غفوت.
في عصر اليوم التالي فاجأني ناجي، عندما دعا أصدقاء الطفولة ورفاق الدراسة، لجلسة قات عندي، سررت كثيرا بهذه المفاجأة، مع أني لا أتعاطى القات، وبقيت على إصراري رغم إلحاحهم، وخاصة أنهم وفروا لي صنفا مميزا _حسب وصفهم_ لكني اكتفيت بالجلوس معهم، واستدعاء ذكريات الماضي، ثم تداعيات الحاضر.
تغير أصدقائي كما تغيرت أنا، ولكن بدت لي تحولاتهم جذرية، ياسر الذي كان أكثرنا جرأة وانفتاحا، والذي لم يكن يفوت مناسبة إلا ورقص فيها رقصات شعبية وغربية، بثيابه التي كانت تحاكي الموضة دائما، أصبح اليوم شيخا، بلحية طويلة، وجلباب قصير، بدا متشددا، يتجنب الحديث في السياسة، عباراته لا تخلو من وعظ، كان الوحيد بينهم الذي يتعاطى القات سراً تلك الليلة، فحسب فتوى شيوخه يعد القات محرما.
وسيم، الفتى الهادئ، أصبح مثل الحرباء على حد تعبير ناجي، يمشي مع كل تيار، ويتقلب مع كل موجة، أصبح يعمل سمسارا منذ الحرب، تزوج ثلاث مرات، وكما علمت من ناجي أنه كون ثروته بطرق غير مشروعة.
لطفي، صاحب أجمل ضحكة، ورجل النكتة، الذي بدا أكبرنا سنا، أصبح كائنا آخر، طوال السهرة، كان سارحا، وفي بعض اللحظات التي استرقت فيها النظر إليه وجدته يحادث نفسه وهو يداعب أغصان القات بين يديه، أن تفقد اثنين من اولادك في الجبهة، بالتأكيد يمكن أن يفقدك عقلك وأشياء أخرى.
أما ناجي الذي أصبح نصف إنسان، ربما الوحيد الذي ظل كما هو صادقا، شريفا، بسيطا.
تغيب مختار (الخروف) كما كنا نسميه، عن السهرة، بحجة انشغالاته، لقد أصبح قياديا بارزا ، وله منصب مهم، أوصلته إليه الحرب و تقلبات الأيام،
وتغيب ناصر قسرا ، فقد غيبته يد الغدر قبل سنوات، عندما اغتالوه أمام أطفاله، بتهمة انتمائه للسلك العسكري!
تحدثنا عن الحياة في الغربة، فرص العمل، التكنولوجيا وأشياء، كثيرة،، قفز وسيم وسأل عن النساء، والعلاقات التي يمكن أن أكون قد أقمتها هناك، التمعت أعين الحاضرين، وبدوا جميعا متلهفين لسماع التفاصيل، لكن عندما نفيت أنا أي علاقات خارج إطار الزواج، بدا وكأنني خيبت ظنهم.
صمتوا لدقائق. ووحده لطفي الذي كان ساهما طيلة السهرة فاجأني حين قال؛ هل كنت تشعر بالسعادة في الغربة؟
ودعتهم وأنا أشعر أني غريب عنهم في كل شي، ثيابي، لهجتي، تفكيري وحتى ملامحي...
لذت إلى سطحي، لمحتها، خلف الجدار الفاصل بيننا، حرك النسيم طرف خمارها، اختفت بسرعة، لكني استطعت اقتناص ملامحها الجميلة...
قضيت نهارات أسبوعي أتجول في المدينة، في سوقها الوحيد وفي الأزقة الضيقة، ثمة شيء مفقود، فتشت عنه فلم أجده... بدا وكأن الزمن هنا قد فقد بوصلته، فأوغل السير في طريق التخلف، رأيت وجه البؤس سافرا دون قناع، واختلط عندي صوت قرقرة البطون، مع رصاص الاحتفاء بقوافل الشهداء....
تأملت وجه المدينة، فرأيت فيه ألف ياسر، وألف وسيم وألف لطفي، وألف مختار، وغاب عنه ألف ناصر... قلبت عيني في جسدها فرأيت فيه ناجي.
بات صعودي للسطح هو متنفسي الوحيد، كان قلبي يخفق في كل مرة أشعر بوجودها هناك، لاحظت أنها تبقى لوقت أطول قبل أن تختفي، ورغم أن لي زوجة في الغربة، لكنني لا أنكر أن قلبي كان ينبض بشكل غريب كلما صعدت للسطح، وعندما التقت عيوننا ابتسمت في خجل، ثم ولت هاربة.
في ليلتي الأخيرة صعدت إلى السطح، أبحث عنها، لأراها، وأودعها، في محاولة للاحتفاظ بذكرى جميلة من هذه المدينة.
انتظرتها، رأيت طيفها يختبىء في حياء، ثم رأيتها تطل بعينيها الجميلتين، اعتصرني الألم لأني لن أراها مجددا، اقتربت منها، فابتعدت.
رجوتها أن تبقى فهذه ليلتي الأخيرة، لمحت الحزن في عينيها الواسعتين، انتظرتْ قليلا وكأنما تذكرت شيئا، ثم حاولت الهرب، مددت يدي كأنما أريد أن أمسكها، ولما لم يكن ذلك ممكنا، طلبت منها معرفة اسمها على الأقل، كي أحتفظ به في قلبي وذاكرتي.
ترددت قليلا، ثم قالت قبل أن تختفي نهائيا... "سعادة".
صوفيا الهدار