روحانيات رمضان

عدن لنج،- الاقتصادية

 

 

يعد شهر رمضان المبارك سيد الشهور وأفضلها عند الله، وكان النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ــــ يبشر أصحابه بقدوم هذا الشهر لما فيه من المزايا والفضائل، ومن أهمها نزول القرآن الكريم، قال الله تعالى ”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن”. ومن أهم العبادات المفروضة في شهر رمضان عبادة الصوم، وهي الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات، وذلك بنية التعبد، والصيام مأمور به في كل الشرائع السماوية إلا أن كل شريعة اختلفت في طريقته، ففي شريعة نوح عليه السلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وفي شريعة موسى عليه السلام صوم عاشوراء، وشرع الصيام لمعان عظيمة قد ندرك بعضها، فمنها: أولا: تحقيق المعنى الروحي وهي العبودية لله تبارك وتعالى، ولهذا كان الصيام أحد أركان الإسلام بالاتفاق، فالإسلام لا يتم إلا بالصيام، والصيام فيه تدريب العبد على الطاعة والامتثال، وتذكيره بأنه عبد لله تبارك وتعالى لا لغيره، ولهذا فإن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ يأمر في أوقات بالأكل، فلو صام المسلم لكان عاصياً كما في العيد، وفي أحوال أخرى يأمره سبحانه بالصوم حتى لو أنه أفطر لكان عاصياً، وهكذا تجد هذا يتحقق في الإحرام؛ لأن العبد يمنع من أشياء في الإحرام ويؤمر بها في غيره؛ ليتحقق فيه أشياء كثيرة يتذكر فيها أنه عبد لله ـــ سبحانه وتعالى ـــ يأتمر بأمره ويقف عند حده، وهذا معنى عظيم لو أن الناس أدركوه وتفطنوا له في عباداتهم، لكان أثره ليس مقصوراً على الأركان المعروفة، ومعنى العبودية لله جل جلاله هو اللب الروحي لمعاني الصيام وسائر معاني العبادات، وكثير من المسلمين يُخلّون بهذا المعنى، فقد يلتزمون ببعض العبادات، لكنها فقدت روحها عندهم فأصبحت لا تؤثر فيهم الأثر المقصود شرعاً.

ثانيا: أنه يربى المسلم على التقوى، ولهذا قال الله تعالى: (لعلكم تتقون) لأن الإنسان إذا كان صائماً فرضاً أو نفلاً تذكر أنه لا يشرب ولا يأكل مع أن هذه الأشياء في الأصل مباحة له؛ لأنه مرتبط مع الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ بوعد، فهو ممسك ابتغاء ثواب الله سبحانه، فحينئذ من باب أولى أنه سيكف عن المعاصي التي يعرف أنها محرمة في كل الظروف، وهذا المعنى يحمل المسلم على التقوى، فكيف يمسك عن الطعام والشراب مع أنهما مباحان في الأصل، ثم يقبل على الغيبة أو النميمة أو قول الزور أو شهادة الزور أو غير ذلك، ولهذا جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، فالذي ترك قول الزور وترك العمل به ليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه، وإنما معنى الحديث أن الله جل جلاله لم يشرع الصيام لحاجته إلى أن يدع الناس الطعام والشراب، وإنما شرع الصيام من أجل أن يتدربوا على ترك قول الزور والعمل به، فإذا لم تتركوا قول الزور ولم تتركوا العمل به فأي معنى للصيام؟

فالصوم يربي الإنسان على التقوى وترك المحرمات كلها من الغيبة والنميمة والفحش وغيرها من الأخلاق السيئة الرديئة المدمرة للفرد والمجتمع.

ثالثا: أنه يكسب المسلم مهارات سلوكية عدة منها مهارة قوة الإرادة، ومهارة الصبر، ولهذا من أسماء الصوم الصبر، ولذلك سمي شهر رمضان شهر الصبر، بل في قول الله جل جلاله: (واستعينوا بالصبر والصلاة) قال بعض المفسرين: المقصود بالصبر هنا الصوم. أي: استعينوا بالصوم والصلاة، وذلك لأن الصوم يربي ملكة الصبر وقوة الإرادة، وكثير من الناس يحتاجون دائماً إلى تقوية في إرادتهم، ولذلك يعتبر الصوم من أسباب اكتساب المهارات للناجحين.

رابعا: إضافة لما سبق هناك بعض الآثار المترتبة على أداء المسلم في عبادة الصوم من تلك الآثار ما يتعلق بالجانب النفسي والبدني والأطباء تحدثوا عن الصيام وأثره على البدن، وتنظيم الطعام، وأنه نوع من الحمية، وقد يوصي به بعض أهل الطب في بعض الأمراض، ولا شك أن هذه الأشياء من الفوائد التابعة، كما يقال مثل هذا عن الصلاة أو عن الحج أو عن غيرها، وأختم بقول توم برنز من مدرسة كولومبيا للصحافة: إنني أعتبر الصوم تجربة روحية عميقة أكثر منها جسدية، فعلى الرغم من أنني بدأت الصوم بهدف تخليص جسدي من الوزن الزائد إلا أنني أدركت أن الصوم نافع جدا لتوقد الذهن، فهو يساعد على الرؤية بوضوح أكبر، وكذلك على استنباط الأفكار الجديدة وتركيز المشاعر، فلم تكد تمضي عدة أيام من صيامي في منتجع بولنج الصحي حتى شعرت أني أمر بتجربة سمو روحي هائلة.

لقد صمت إلى الآن مرات عديدة لفترات تراوح بين يوم واحد وستة أيام، وكان الدافع في البداية هو الرغبة في تطهير جسدي من آثار الطعام، غير أنني أصوم الآن رغبة في تطهير نفسي من كل ما علق بها خلال حياتي، وخاصة بعد أن طفت حـول العالم لعدة شهور، ورأيت الظلم الرهيب الذي يحيا فيه كثيرون من البشر، إنني أشعر أنني مسؤول بشكل أو بآخر عما يحدث لهؤلاء ولذا فأنا أصوم تكفيرا عن هذا، إنني عندما أصوم يختفي شوقي تماما إلى الطعام، ويشعر جسمي براحة كبيرة، وأشعر بانصراف ذاتي عن النزوات والعواطف السلبية كالحسد والغيرة وحب التسلط، كما تنصرف نفسي عن أمور علقت بها مثل الخوف والارتباك والشعور بالملل. كل هذا لا أجد له أثرا مع الصيام، إنني أشعر بتجاوب رائع مع سائر الناس أثناء الصيام، ولعل كل ما قلته هو السبب الذي جعل المسلمين وكما رأيتهم في تركيا وسـورية والقدس يحتفلون بصيامهم لمدة شهر في السنة احتفالا جذابا روحانيا لم أجد له مثيلا في أي مكان آخر في العالم.