جيفارا العرب.. محمد عبد الكريم الخطابي

عدن لنج - هافينغتون بوست عربي

 

منير إبراهيم تايه كاتب وباحث فلسطيني

“إني آمل أن تستفيد أمتي من تجربتي”
كانت هذه أمنية المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الخالدة، التي أراد من خلالها أن يبعث برسالة إلى الأمة على مرّ عصورها للاستفادة من تجربته الرائدة في الكفاح. فرغم مرور أكثر من تسعين عاماً على حرب الريف التحريرية، فإنها ما زالت تحظى باهتمام كبير من الباحثين والمهتمين..

فليس من الهيّن على هذه الشخصية الفذة، أن تخترق الآفاق، وتصبح من الشخصيات الخالدة في التاريخ. فالخطابي لم يعرف كشخصية عسكرية فقط، بل كمفكر استطاع أن يقود نهضة اجتماعية وتنموية بمنطقة الريف، حيث ألهبت شخصيته ومعاركه قريحة عددٍ من الشعراء، فنظم في حقه الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان شعراً يقول فيه:

في ثنايا العجاج والتحام السيوف
بينما الجو داج والمنايا تطوف
يتهادى نسيـم
فيه أزكى سلام
نحو عبد الكريم
الأمير الهمـام
ريفنا كالعريـن
نحن فيه الأسود
ريفنا نحميه

كما أن هناك قواسم مشتركة كثيرة تجمع ما بين تشي غيفارا والأمير عبدالكريم الخطابي فالثورة ضد الاستعمار ونصرة الشعوب المستضعفة والنضال ضد الإمبريالية والعدالة والحرية جمعت ما بين الرجلين لكن الأول تم نسيانه أو تناسيه بينما تشي غيفارا ظل تاريخه حياً في ذاكرة الأمم يحفظون تاريخه عن ظهر قلب.. والمفارقة الغريبة إذا علمنا أن غيفارا نفسه هو من المعجبين بالأمير عبدالكريم الخطابي فقد حرص عندما زار القاهرة على لقائه وتحيته كأحد أول الملهمين لحركات التحرر في العالم وما إن جلس على الكرسي إلى جانبه حتى قال له: أنا تلميذك فعلمني..

عندي قناعة مفادها أن أي كاتب يريد الكتابة حول شخصية تاريخية فيجب أن يشعر بارتباط من نوع ما بينه وبين هذه الشخصية حيث يشاطره الرؤى. وإلا فستكون المهمة صعبة، أما إذا توفر التعاطف والانجذاب فإنك ستباشر عملك بحماسة أكبر، و كما هو الحال بالنسبة إلينا تجاه عبد الكريم الخطابي.
كانت أمنيته أن تتعلم الأمة من تجربته فهو يعد أحد أحد أبرز مناضلي المغرب في القرن العشرين، فهذا الرجل القصير القامة الذي صقلته نوائب الدهر عرف عنه الهدوء والتواضع وعزة النفس، حيي لا يكاد ينظر فيك كثيراً، نظراته حادة بشكل غريب، خافت الصوت لا تكاد تسمع حديثه، بسيط الملبس، لكن هذه الشخصية الهادئة المتواضعة كانت تخفي مشروع مقاوم صلب شرس لا يشق له غبار كتبه التاريخ قائداً وطنياً، وزعيماً متمرساً للمقاومة المغربية، يمتلك سيرة سياسية وعسكرية وقائد عسكري محنك، ترأس قيادة حركة المقاومة الريفية التي ثارت ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي في المملكة المغربية..

ولد المجاهد محمدعبدالكريم الخطابي بأغادير عام 1882م، ونشأ في عائلة اشتهرت بالعلم، في طفولته تلقى الخطابي تعليماً دينياً صرفاً قبل أن ينتقل للدراسة في مدينة “تطوان” ثم مدرسة العطارين بفاس، ثم انتقل إلى مدينة مليلة التي نال فيها شهادة البكالوريا “الإسبانية”. انتقل بعد ذلك إلى الدراسة في جامعة القرويين بفاس.

بدأ حياته المهنية كمدرس ثم مكنه تعليمه الجامعي وإتقانه للغة الإسبانية من الاشتغال كمترجم وكاتب بالإدارة المركزية للشؤون الأهلية بمليلية سنة 1910 ثم كصحفي في جريدة “تيليغراما ديل ريف” الناطقة بالإسبانية (بين 1907 و1915) الى أن تم تعيينه سنة 1913 قاضياً، ثم رقي سنة 1914 إلى منصب قاضي القضاة وعمره آنذاك لم يتجاوز الثالثة والثلاثين.

بعد أن وقع المغرب تحت الوصاية بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء عام 1906 ، بمشاركة اثنتي عشرة دولة. وكان القرار لهذا المؤتمر ، تقسيم بلاد المغرب بين فرنسا و إسبانيا، ففي هذه المرحلة كان المغرب محط الأطماع الاستعمارية، حيث كانت تحاول جاهدة الاستيلاء عليه لاستغلال إمكانياته الإستراتيجية و الاقتصادية ، لم يكن المغرب حينها أفضل حالاً من غيره من الدول العربية من ناحية الفقر والتأخر الحضاري. وهذا ما لم يرض بطبيعة الحال كثيراً من الأحرار خصوصاً في منطقة كالريف لها تركيبتها الدينية و القبلية. وهذا ما تمت ترجمته بعدة حركات مقاومة غاضبة وتمردات قادتها قبائل عديدة ضد الحماية الفرنسية - الإسبانية. وكانت الحماية تستعمل بنود المعاهدة في قمع هذه التمردات وأشكال المقاومة تحت مبرر الدفاع عن شرعية السلطان!! زيادة على وسائل أخرى استعملتها الحماية لإخماد ثورات القبائل كاستعمال الدين والمال لتأليب القبائل على بعضها وتوريطها في نزاعات بينها بغرض إضعافها وفي هذه الظروف المعقدة والمتشابكة التي كان طابعها التمزق والتشظي نشأ عبد الكريم الخطابي

ولكن الشيخ عبدالكريم الخطابي وابنه محمد كان لهما رأي آخر، فبدأ بتجميع القبائل المتناحرة على راية الإسلام الواحدة، ومراسلة الخليفة العثماني في عاصمة الخلافة، وعندما قتل الإسبان الشيخ المجاهد عبد الكريم الخطابي وجد الخطابي نفسه في فوهة المدفع. وأدرك بعد التسويف والمماطلة من قبل الإسبان أن الحل الوحيد هو المقاومة المسلحة. فشرع في توحيد وتجميع القبائل تحت لوائه وبدأ المقاومة المسلحة ضد الإسبان مستفيداً من المعلومات التي جمعها عن سلطات الاحتلال خلال فترة عمله في الترجمة ومعرفته لطريقة تفكيرهم وردود أفعالهم. و لعل معركة “أنوال” ذات الصيت العالمي كانت من المعجزات العسكرية حيث كانت مواجهة بين جيش نظامي مزود بأحدث الأسلحة وحركة مقاومة بسيطة التسليح والتدريب تعدادها لا يتجاوز الثلاثة آلاف مقاتل. ولكنه ألحق بالإسبان هزيمة لا تنسى لدرجة أن المصادر العربية تتحدث عن المعركة تحت اسم “معركة أنوال” بينما المصادر الإسبانية وإلى يومنا هذا تسميها “كارثة أنوال” .

لم يكن الرجل من محبي السلطة. وحرص دائماً على تأكيد هذا المبدأ. مما أكسب خطابه مصداقية بين الناس وجمع حوله أنصاراً مخلصين في سبيل قضيتهم، تحت قيادة شخص يحمل نفس المبدأ. وكانت النتيجة هي ذوبان الخلافات التي كانت تسود بين القبائل المغربية وانضواء الجميع تحت راية واحدة. وهو إنجاز يسجل للخطابي الذي يعتبر من أوائل من رسّخوا مفهوم الولاء للوطن أولا بدلاً من القبيلة.


وبعد انتصاره الباهر في معركة أنوال أسس عبد الكريم الخطابي الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف، المعروفة تاريخياً باسم “جمهورية الريف”. وأبان عن حنكة كرجل دولة ناجح في طريقة إدارته لجمهورية الريف، حيث شرع في كتابة دستور عصري وجاء بهياكل إدارية وتنفيذية وتشريعية تعكس جميع ألوان القاعدة الشعبية لجمهورية الريف وأسس المحاكم واهتم بنظام التعليم وحرص على ربط مناطق جمهورية الريف بشبكة الاتصالات الهاتفية، زيادة على إقامته لشبكة مواصلات كما انتصر لمنطق الدولة على حساب شريعة القبيلة عن طريق عمله على سن القوانين التي تنظم حياة الناس وتؤكد على مبادئ “المواطنة”، مثل قوانين تجرم الانتقام والثأر و غيره من العادات والتقاليد القبلية التي كانت سائدة.. يقول عن نفسه و مهمة حركته: (أنا لا أريد أن أكون أميراً ولا حاكماً، وإنما أريد أن أكون حراً ولا أطيق من سلب حريتي وكرامتي، لا أريدها سلطنة ولا إمارة، ولا جمهورية، ولا محمية، وإنما أريدها عدالة اجتماعية، و نظاما عادلاً، يستمد روحه من تراثنا وحرية شاملة حتى نرى أين نضع أقدامنا في موكب الإنسان العاقل المنتج العامل لخير المجتمع).

فور تأسيس الجمهورية الريفية والنجاحات التي حققها الخطابي عسكرياً وسياسياً أدركت الدول الاستعمارية أن مشروع الخطابي سيكون بداية النهاية لمشاريعهم الاستعمارية في المنطقة بأكملها فحشدت القوتان الاستعماريتان قرابة نصف مليون جندي وجاءت بأرفع جنرال فرنسي هو الماريشال “فيليب بيتان” بهدف القضاء على الخطابي ومشروعه التحرري، وبعد شهور من الحصار والاستنزاف قرر عبد الكريم الخطابي مجبراً الاستسلام حفاظاً على حياة من تبقى من أهل الريف. حيث تم الاتفاق على نفيه إلى جزيرة “لارنيون” قبل أن يستقر في مصر حيث توفي.

هذه سيرة رجل لم تعط حقها، إن سيرته تكاد تكون صورة مثالية للمقاومة الواعية، إنه أحد الأبطال الكبار الكبار الذين نسيتهم الأجيال. لا أخفي كم أشعر بالحزن حين يسهب الآخرون في ذكر تاريخ غيفارا ولا يعرفون من هو الخطابي؟ ما أحوجنا في هذا العصر لرجل مثله..