الخليل الفراهيدي وعبقرية الزاهد!

عدن لنج - هافينغتون بوست عربي

 

الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي، أبوعبدالرحمن، أحد علماء العربية والإسلام الكبار، وأحد مفاخر هذه الحضارة العظيمة. وُلد سنة 100هـ، وتوفي سنة 175هـ. وهو عُماني المولد، بصري النشأة.

وهو شيخ أشهر علماء العربية قاطبة وهو سيبويه، وعنه أخذ هذا الأخير علمه، وأذاعه في الناس من خلال كتابه، أشهر كتبه في النحو على الإطلاق المعروف باسم: (الكتاب).

وكان من زهاد الدنيا، عزيز النفس جداً طلب منه أن يؤدب ولد الأمير، وهو تعبير قديم لمن يعمل في تربية الصبيان، فكتب في الرد على من طلب ذلك:

أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لستُ ذا مال

وهذه المكرمة كانت تعني مخاطر خضوع النفس وتبعيتها لأحد من قيادات السلطة التنفيذية. وفهم أصيل مبكر لطلب الاستقلال والحرية التي تمكّن صاحبها من التحرر من القيود المؤثرة في المنهجية العلمية تأثيراً سيئاً ضاراً.

اللغة شرط تأسيسي للوجود الإنساني والعمراني

كان الإعلان العجيب عن تعليم الله تعالى آدم الأسماء أمراً عجيباً، ولافتاً إلى منزلة اللسان في مسيرة الوجود الإنساني العمراني على الأرض، كما جاء في الكتاب العزيز يقول تعالى: ﴿وعلم آدم الأسماء كلها﴾ [ سورة البقرة2/31].

وهي الآية التي فتحت أمام المسلمين من أهل السنة والمعتزلة على السواء أن يروا في الله تعالى مصدراً مفسراً لنشأة اللسان أو اللغة الإنسانية، إن من طريق الإلهام والتوقيف، بموجب الظاهر من دلالة ﴿وعلّم﴾، أو اصطلاحاً ومواضعةً بموجب تأويل ﴿وعلم﴾ لتنصرف دلالتها إلى الإقدار والجعل؛ أي تمكين الله الإنسانية من أن تتعلم اللغات والأسماء.

وقد أدرك وعي الخليل بن أحمد مركزية وضع اللغة في سياق الحياة الإنسانية، بما هي شرط تأسيسي يلزم المناطق التالية:

أ. المجتمع الإنساني أو الاجتماع الإنساني (التواصل المحقق للوجود).

ب. العمران.

ج. إنتاج المعرفة.

د. تحقيق التأنس وإشاعة المروءات والفضائل.

وانعكس وعيه بهذه المركزية في مجموعة من التجليات والمنجزات التي سبق إليها، وابتدعها واخترعها في الوجود العلمي بالحضارة العربية الإسلامية، وهي كما يلي:

1.2.إرادة حصر كلمات اللغة (توظيف التقنيات الرياضية الإحصائية).

كانت واحدة من تجليات عبقرية الخليل ظاهرة في المنهجية المستقرة وراء بنائه معجمه (العين) الذي هو أول معجم لغوي كامل الوظائف المعجمية.

وتتجلى إرادة حصر الألفاظ في تطبيقاته منهج (التقاليب) وهو منهجية رياضية إحصائية تعتمد فكرة التوافيق والتباديل، أو فكرة الاحتمالات ثم جمع مفردات اللغة بناء على الصور النظرية المحتملة، فما يوجد له شواهد يكون مما استعمله العرب يرصده، ويفسره، ويعلق عليه، ويستشهد بما يكشف عن معانيه واستعمالاته، وما لا يوجد له شواهد يكون من المهمل الذي لم يستعمله العرب، فيشير إلى ذلك.

وبهذه المنهجية المستصحبة إجراءً رياضياً يتحقق بصورة نظرية السبيل لحصر ألفاظ العربية في زمان مبكر جداً من عمر هذه الحضارة قبل ظهور الحواسيب، وتقنيات المعلومات الحديثة.

وهذه المنهجية الرياضية كشفت زيف اتهام الحضارة العربية الإسلام بالإغراق في العلوم النظرية، وإن كان ذلك لا يعيبها ابتداءً.

ولكن منهج العين يظهر عدداً من ملامح التطبيقات العلمي المبكرة في هذه الحضارة العلمية، استصحبت المناهج الرياضية، وأدركت قيمة العلوم التجريبية في ضبط المناهج التي تتوخى الحصر والإحصاء.

2.2. استخراج قواعد اللسان.

من جانب آخر يكشف كتاب سيبويه أشهر تلاميذ الخليل، وجامع علمه، وناشره على الدنيا في هذا الكتاب عن حقيقة ظاهرة ملخصها أن الخليل هو واحد من مؤسسي الدرس النحوي الذي يسعى لضبط قواعد تركيب الكلام العربي.

وأول مؤسس لعلم الصوتيات في تاريخ العلم بهذا الفرع من فروع اللسانيات أو العلوم اللغوية في الحضارة العربية.

وهذا التأسيس للصوتيات من جانب والإسهام في التأسيس للنحو أو القواعد التركيبية للعربية من جانب آخر جاء على خلفية إرادة خدمة الكتاب العزيز الذي هو معجزة لغوية بامتياز.

وقد تميز هذا التأسيس بمجموعة من الخصائص العلمية المنهجية المنضبطة، يمكن جمعها فيما يلي:

أولاً: استعمال منهجية منضبطة تعتمد على إجراءات مستقرة من:

أ. الجمع اللغوي (الاستقراء).

ب. الملاحظة.

ج. التجريب، والتحليل.

د. اختبار الفروض.

هـ. اختبار النتائج.

و. الوصف.

ز. تعميم الأحكام واستصحاب الدليل.

ثانياً: الدوران حول خدمة الكتاب العزيز

لقد كان أحد أهداف تأسيس علم الصوتيات في العربية الذي نهض به ويقصد خليل بن أحمد وصاغه سيبويه ماثلاً في إرادة خدمة الكتاب العزيز إن من طريق مباشر وإن من طريق غير مباشر.

ويقصد بالطريق المباشرة التوجه إلى إرادة ضبط قراءة المصحف الشريف وإحسان أدائه بما أن ذلك عبادة وقربى لله تعالى مأمور بها.

ويقصد بالطريق غير المباشر تحقق خدمة لغة الكتاب العزيز بسبب ضبط نتائج هذا التأسيس للصوتيات وقواعد التراكيب، بما أن الكتاب العزيز يؤمر بأدائه وتلاوته، ويؤمر بفهمه وتدبره، وهو ما يتحقق ابتداءً من طريق تحليل تراكيبه.

ثالثاً: حيازته وتمتعه بالقيمة العلمية

إن تحليل عمل الخليل في هذا الباب من خلال فحص نتائج منجزه يكشف عن تمتعه بقيمة علمية متقدمة وراقية، تمثلت في:

أ. الوصف الصحيح للأصوات.

ب. معرفة آلات النطق الطبيعية.

ج. إدراك حقائق توزيع الأصوات العربية على المخارج والسمات.

د. الوعي بوصف تكوين التراكيب النحوية.

هـ. الإدراك الواعي لأنماط التراكيب وخصائص كل نمط، والقيم الدلالية الداخلية لكل نمط.

3.2 اختراع طرق ضبط الكتابة (إصلاح الأنظمة الكتابية)

ومما يحسب لعبقرية الخليل بن أحمد الفراهيدي أنه مخترع نظام الضبط الكتابي، فهو الذي اخترع وضع العلامات التالية فوق الحروف في النظام الكتابي للعربية:

ﹻﹻﹻ = تحت الحروف المكسور (اختصاراً من الياء المرتدة ﯿ).

ﹹ = فوق الحرف المضموم (اختصاراً من الواو).

ﹷ = فوق الحرف المفتوح (اختصاراً من الألف بعد إضجاعها أو تنويمها فوق الحرف).

ﹿ = فوق الحرف العاري من التحريك (وهي مأخوذة من رأس الخاء اختصاراً للتخفيف من الحروف).

ﹽ = فوق الحرف المشدد الذي ينطق بقيمة حرفين (اختصاراً من رأس الشين المقتطعة من الشين).

يقول الداني في المحكم في نقط المصاحف (ص7-8): “الشكل الذي في الكتب من عمل الخليل. وهو مأخوذ من صور الحروف، فالضمة واو صغيرة الصورة في أعلى الحرف؛ لئلا تلتبس بالواو المكتوبة، والكسرة ياء تحت الحرف، والفتحة ألف مبطوحة فوق الحرف”.

وهذا الاختراع وعي مبكر جداً بطبيعة النقص المستولي على أنظمة الكتابة، وإرادة معالجة هذا النقص، وتعويضه بصورة تعظم تيسيره، وتحسين التحصيل من وراء ضبطه، وتيسير قراءاته.

3. مركزية الفنون والجماليات

في الواقع الحضاري العربي المبكر. حضارة الإسلام هي حضارة الفرح الساكن، والبهجة الآمنة المطمئنة، التي تتغيا إفراح الروح. وهو ما يظهر من الحفاوة بفنون القول بما هي أوسع مدى في التأثير ويأتي بعدها الحفاوة بفنون البصر.

وهذا الاستقرار تجده في امتداح الأصوات الندية، وانتخاب أصحابها لأداء وظائف دينية، والترخص في ممارستها في سياقات مناسبات التوسعة والفسحة، كالأعياد، والزواج مثلاً.

ويعد اختراع الخليل بن أحمد لعلم العروض بما هو علم موسيقى الشعرـ وأصول النغم- دليلاً على مركزية الفنون والجماليات في الواقع الحضاري العربي المبكر بتأثير ما فهم من البعد الجمالي في الكتاب العزيز، الذي ظهر على عدة مستويات هي:

أ. الحرص على تجديده، وأدائه بصورة متأنقة.

ب. الإشارة إلى ملامح الزينة البصرية في الكون، من مثل النظر إلى النجوم والكواكب بما هي مادة من مواد الزينة.

ج. الإشارة إلى ما يحيط بالكائنات والمخلوقات من ملامح جمالية، من مثل: ﴿ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون﴾ [ سورة النحل 16/6].

إن الخليل هو واضع أصول النغم والموسيقى الشعرية- وهو دليل على هذا القبول المبكر للفنون في بنية المعرفة في الحضارة الإسلامية، وهو قبول تجاوز إطار الاعتراف السلبي إلى أطر التجديد والابتكار والتنويع مع مرور الزمان بموجب الفنون القولية التي استحدثها المبدعون العرب.

4. استلهام عبقرية الخليل في العصر الحديث.

لقد كان هذا الإبداع المتعدد في الاتجاهات، والمتنوع في المسارات محل تقدير في العصر الحديث، فظهرت 3 اتجاهات توجهت إلى الكشف عن حدود هذه العبقرية، تمثلت فيما يلي:

1.4. اتجاه الكشف عن إسهامه وابتكاره في مجال المعجمية العربية.

وأثر تطبيقات المنهج الرياضي الصوتي فيه، وهو الاتجاه الذي برز فيه إسهامات دارسين رواد من أمثال:

د. عبدالله درويش.

ب. د. ستيفان فيلد.

ج.د. حسين نصار.

د.د. مهدي المحزومي.

هـ. د. إبراهيم السامرائي.

2.4 اتجاه الكشف عن إسهامه في ضبط الكتابة العربية، والتشكيل، وتحسين أنظمة الكتابة العربية، وتطويرها.

وهو اتجاه لم يظهر فيه إسهامات معاصرة تكشف وتحلل عن دوره في هذا المجال، مع وجود كتابات مهمة يمكن أن تعتمد أساساً في تنمية هذا الاتجاه من مثل:

أ. كتابات الدكتور غانم قدوري الحمد عن الرسم العثماني دراسة لغوية.

ب. كتابات الدكتور عبدالصبور شاهين.

ج. كتابات الدكتور عبدالحي الفرماوي عن رسم المصحف ونقطه.

3.4 . اتجاه عن سهمته في اكتشاف أصول النغم، وموسيقى الشعر العربي.

وهو اتجاه أصيل ومهم جداً من الوجهتين اللسانية والحضارية معاً.

وقد ظهرت إسهامات معاصرة يمكن أن يعتمد عليها بصورة مبدئية في الكشف عن حدود عبقريته في هذا المجال من مثل جهود:

د. إبراهيم أنيس.

د. أحمد مستجير.

ج.د. كامل جمعة.

2.5 . اتجاه الكشف عن دوره في مجال الصوتيات والتراكيب

وهو الجهد الذي ظهر من خلال ما نقله عنه تلميذه سيبويه، وهو أكثر المجالات التي اعتني بها المعاصرون، وتبرز في هذا السياق إسهامات عدد من المعاصرين من مثل:

أ.د. حلمي خليل.

ب.د. حسين نصار.

ج.د. عبدالعزيز الصيغ.

إن الخليل مثال عجيب لما استفزه الإسلام العظيم في واقع الحياة العربية، وأنتجه في النفوس والعقول معاً، وما يتبقى من الخليل كثير جداً ينتظر الاستلهام والاستثمار المعاصرين!