كوكتيل النيوترينو: لماذا تتواجد المادة بكميات أكبر من المادة المضادة في كوننا؟

عدن لنج - ناسا بالعربي

 

النيوترينوهات (Neutrinos) عبارة عن مزيج محير من ثلاث نكهات، وثلاث كتل. ويسعى علماء الفيزياء دوماً لقياس هذه الكميات بأعلى دقة ممكنة. بالنسبة للنيوترينو، فالسفر يُغير حياته. عندما يُنهي واحد من هذه الجسيمات الصغيرة رحلته، التي تمتد 500 ميل من مصدر النيوترينو الموجود في مختبر فيرمي إلى كاشف تجربة "نوفا" في مينيسوتا، فإنه قد يصل وجهته النهائية في حالة مختلفة كلياً عن تلك التي بدأ بها. يستطيع هذا الجسيم، الذي يعبر كل أنواع المواد تقريباً دون أي تفاعل يُذكر، أن يتنقل بين إحدى الأنواع الثلاثة المعروفة للنيوترينو، وتُعرف هذه الظاهرة بالاهتزاز (oscillation).

وفقاً لميكانيك الكم، يُوجد النيوترينو المتحرك في أكثر من حالة مختلفة في الوقت نفسه. وينتج ذلك الأمر عن خاصية تُعرف بالاختلاطmixing، التي على الرغم من غموضها، إلا أنها ضرورية بالنسبة لأهم التفاعلات في الكون- ودراستها قد تؤدي إلى حل أكبر الألغاز في فيزياء الجسيمات.

على الرغم من أن ظاهرة الاختلاط تحصل عند بضعة أنواع من الجسيمات، إلا أن علماء الفيزياء يُركزون على اختلاط اللبتونات (lepton mixing)، الذي يحدث في نوعٍ واحد من اللبتونات: النيوترينو المراوغ (elusive neutrino). هناك ثلاثة أنواع، أو نكهات، معروفة من النيوترينو، وهي: الإلكترون، والميون، والتاو، وهناك أيضاً ثلاثة أنماط من الكتل، أو حالات كتلة. لكن، وعلى النقيض من الأجسام الموجودة في عالمنا اليومي، حيث التفاحة أثقل دوماً من حبة العنب، ليس لنكهات وحالات كتلة النيوترينوهات توافقاً تبادلياً.

يقول كيفن ماكفارلاند Kevin McFarland، أستاذ الفيزياء في جامعة روشستر والمتحدث باسم تجربة "ماينيرفا MINERvA" في مختبر فيرمي: "عندما نقول أن هناك اختلاط بين الكتل والنكهات، فإنّ ما نعنيه هو أن النكهة الإلكترونية ليست الكتلة الوحيدة للنيوترينو".


في أي لحظة من الزمن، يتمتع النيوترينو بوجود أجزاء من الحالات الثلاث المختلفة للكتلة، والتي تُشكل معاً النيوترينو. هناك أيضاً تداخل أكبر بين بعض النكهات وحالات الكتلة. فعندما يكون النيوترينو في حالة كتلة محددة، يقول العلماء أن تلك النيوترينوهات موجودة في الحالات المميزة للكتلة (mass eigenstates). يصف علماء الفيزياء هذا التداخل بمصطلح "زاوية الاختلاط". وعندما تكون هذه الزاوية صغيرة، فذلك يعني وجود تداخل ضئيل. أما عندما تكون الزاوية كبيرة جدًا، فالأمر يتعلق حينها بحالة تكون فيها جميع البارامترات مختلطة بشكلٍ زوجي قدر الإمكان.

لا تساوي زوايا الاختلاط قيمًا ثابتة، ولا يَعرف علماء الفيزياء السبب الكامن وراء وجود هذه القيم الخاصة في الطبيعة.

يقول باتريك هوبر Patrick Huber، عالم الفيزياء النظرية لدى جامعة فيرجينيا: "إنها هبة من الطبيعة. نُريد بشدة فهم سبب وجود تلك الأرقام على ما هي عليه. هناك نظريات تحاول شرحها، لكننا في الحقيقة لا نعرف من أين تأتي".


ولفهم الأمر، يحتاج علماء الفيزياء إلى تجارب كبيرة ليتمكنوا من التحكم بعملية صنع النيوترينوهات ودراسة تفاعلاتها في الكاشف. في العام 2011، بدأت تجربة "دايا بي" في الصين لدراسة النيوترينوهات المضادة (antineutrinos) الناتجة عن محطات الطاقة النووية، التي تُولد عشرات الميغاوات من الطاقة على شكل نيوترينوهات مضادة. في الحقيقة، إنه عدد مذهل. وللمقارنة، تُولّد أشعة الليزر في المخابر ما يصل إلى كيلوواط فقط. بعد عام واحد من ذلك، حصل العلماء العاملون هناك على واحدة من زوايا الاختلاط المعروفة بتيتا 13 (أو theta13).

كان ذلك الاكتشاف جوهرياً، فقد أكد أنّ كل زوايا الاختلاط أكبر من الصفر. وهذه الخاصية مهمة بالنسبة لعلماء الفيزياء، ليبدؤوا في استخدام اختلاط النيوترينوهات كجهاز لسبر غور أحد أكبر ألغاز الكون: لماذا المادة موجودة؟

وفقاً للنموذج القياسي لعلم الكون، فإنّ الانفجار العظيم (Big Bang) لا بدَّ وأنه صنع كميات متساوية من المادة والمادة المضادة. ولأنّ هذه المواد تُفني بعضها البعض عند تصادمها، فإن حقيقة وجود المادة الآن تُبيّن أن التوازن الذي حصل فضّل بطريقة ما المادة على المادة المضادة؛ وهذا الأمر يُناقض القاعدة المعروفة ب "تناظر تكافؤ الشحنة" (CP symmetry).

تنص إحدى طرق دراسة تناظر CP على البحث عن اللحظات التي تصرفت بها جسيمات المادة بطريقة مختلفة عن مقابلاتها جسيمات المادة المضادة. ويبحث علماء الفيزياء عن قيمة محددة في بارامتر الاختلاط. تُعرف هذه القيمة بـ "الطور المعقد" (complex phase)، التي ستكون دليلاً على انتهاك تناظر CP في النيوترينوهات، وتجربة دايا بي تُعبّد الطريق نحو ذلك.

يقول كام بيو-لوك Kam Biu-Luk، المتحدث باسم تعاون دايا بي: "نعرف الآن أن لدينا قيمة لا تساوي الصفر بالنسبة لكل زوايا الاختلاط. ونتيجة لذلك، فنحن نعلم أن لدينا فرصة لتصميم تجربة جديدة للمضي أبعد في تعقب انتهاك CP".

ستستخدم المعلومات المستمدة من دايا بي، بالإضافة إلى التجارب العاملة في مجال النيوترينو، من مثل تجربة نوفا في مختبر فيرمي وT2K في اليابان، في فهم البيانات التي ستأتي من تجربة النيوترينو تحت الأرضية (DUNE)، والتي ستكون أكبر مسرّع نيوترينو بُني على الإطلاق، إذ ستُرسل الجسيمات لمسافة 800 ميل نحو كواشف ضخمة ومملوءة بحوالي 70 ألف طن من الأرغون السائل. ويحدونا الأمل في أنّ تقودنا هذه التجربة إلى الحصول على بيانات دقيقة حول الطور المعقد، لتكشف بالتالي عن الآلية التي سمحت للمادة بالازدهار.

 

يقول هوبر: "يُمكننا بطريقة ما اعتبار اهتزاز النيوترينو نوعاً من فيزياء جديدة، لكننا نبحث الآن في الفيزياء الجديدة الموجودة داخل ذلك. وبوجود تجربة دقيقة مثل ديون، سيكون لدينا القدرة على اختبار هذه الأشياء الموجودة خلف الاهتزازات".

النيوترينوهات ليست الجسيمات الوحيدة التي تُعاني من الاختلاط، فالكواركات (quarks) لديها الخاصية نفسها أيضاً. ولا يعرف علماء الفيزياء حتى يومنا هذا ما إذا كان الاختلاط عبارة عن خاصية موروثة في كل الجسيمات. لكن، وفقاً لما يعرفونه حتى الآن، فمن الواضح أن الاختلاط عملية أساسية في تزويد الكون بالطاقة.

 

يقول ماكفارلاند: "لولا الاختلاط وهذه التفاعلات، فإنّ كل العمليات الحرجة التي تحصل في الكون ما كانت لتحدث. يبدو أن الطبيعة أحبت أن يحصل ذلك؛ ونحن لا نعرف السبب!".