الآداب الإسلامية.. ماذا قدمت لأوروبا؟

عدن لنج / بوابة العين الإخبارية
في مقدمة كتابه "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي"، كتب شاعر ألمانيا الأشهر وكاتبها الكبير يوهان فولف جانج جوته، عن نفسه، إنه "لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم". كانت عبارة مثيرة للدهشة والغرابة خاصة أنها كتبت في وقت مبكر من القرن التاسع عشر، كانت المنطقة الذهنية بين الحضارتين الشرقية والغربية "وخاصة الإسلام وأوروبا" رمادية وغائمة، منطقة يظللها سوء الفهم والتباس المفاهيم وخبايا المؤامرات والدسائس التي كانت تحركها خيوط السياسة والساسة ومصالح الدول الاستعمارية آنذاك..
مقولة جوته السالفة تصلح كمدخل مناسب لرصد الصورة الأخرى، المغايرة، البعيدة، في المخيلة الغربية للإسلام كحضارة وثقافة ورسالة إنسانية كبرى، غابت وجوهه المشرقة وراء صراعات الماضي ومصالح الحاضر والتباسات المواقف بين الطرفين.
لكن ثمة محاولات جادة وعميقة ورصينة لفهم عميق لثقافة الإسلام وجوانبه الروحية والحضارية، ظهر نتاج هذه المحاولات "خارج دوائر الاستشراق والمؤسسات العلمية والمراكز البحثية والجامعات.. إلخ التي يمثل ما أنتجته من خطاب منطقة أخرى ومساحة مغايرة تستدعي سياقا آخر للحديث عنها" في كتابات متفرقة لكتاب ومفكرين وفلاسفة غربيين، خلال القرنين الأخيرين، يستطيع الباحث المدقق أن يستخلص من بينها رؤية مغايرة وصورة مختلفة عن الصورة النمطية السائدة عن الخطر الإسلامي والإسلاموفوبيا، عززتها ممارسات جماعات إرهابية متطرفة ارتكبت الجرائم الوحشية وأسالت الدماء في بقاع عدة من العالم تحت ستار زائف ووهمي وخادع من الانتماء للإسلام، رسالة وديانة، ثقافة وحضارة.
وهناك من وقف جهده في جمع عشرات، بل مئات المقولات المنسوبة لأعلام الفكر الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، لتوظيفها بشكل دعائي انفعالي خطابي للتدليل على روعة الإسلام وسماحته، وعن أثره في نهوض أوروبا في العصر الحديث، وربما بصورة مبالغ فيها أدت إلى عكس الغرض المراد منها وبصورة سلبية تماما، لكن هذا لا يمنع أن توضع مثل هذه الشهادات والمقولات ووجهات النظر الخاصة في سياق أشمل وأكبر ضمن مساحة حوار جادة وحقيقية بين عالمين تجمعهما مصالح وتناقضات، لذا فمن المهم إيراد مثل هذه الشهادات في صورة تبعد عن المبالغة والاستشهاد العاطفي، وتجانب في الوقت ذاته النظر إليها بتوجس وعدم اهتمام ولا مبالاة..
ولنبدأ بجوته، الذي تمثل علاقته بالإسلام ونبيه محمد "صلى الله عليه وسلم" ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للدهشة في حياة الشاعر الألماني الأشهر "جوته لدى الألمان مثل شكسبير بالنسبة للإنجليز وثربانتس للإسبان ودانتي للطليان"، فكل الشواهد تدل على أنه كان في أعماق وجدانه شديد الاهتمام بالإسلام، وأن معرفته بالقرآن الكريمˆ كانت-بعد الكتاب المقدس- أوثق من معرفته بأي كتاب من كتب الديانات الأخرى، ولم يقتصر اهتمامه بالإسلام وتعاطفه معه على مرحلة معينة من حياته، بل كان ظاهرة تميزت بها كل مراحل عمره الطويل، فقد نظم، وهو في سن الثالثة والعشرين، قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبي محمد "صلى الله عليه وسلم"، وحينما بلغ السبعين من عمره أعلن على الملأ أنه يعتزم أن "يحتفل في خشوع بتلك الليلة المقدسة التي أنزل فيها القرآن على النبي"، وبين هاتين المرحلتين امتدت حياة طويلة أعرب الشاعر خلالها بشتى الطرق عن احترامه وإجلاله للإسلام، وهذا ما نجده قبل كل شيء في ذلك الكتاب الذي يعد، إلى جانب "فاوست"، من أهم وصاياه الأدبية للأجيال، وهو كتاب "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" "ترجمه إلى العربية عبد الرحمن بدوي".
بل إن دهشتنا لتزداد عندما نقرأ العبارة التي كتبها في إعلانه عن صدور هذا الديوان، وقال فيها إنه هو نفسه "لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم"، كل ذلك بحسب ما أوردته الكاتبة والناقدة الألمانية كاترينا مومزن في كتابها القيم "جوته والعالم العربي" "ترجمه إلى العربية د.عدنان عباس علي".
وتحاول مومزن أن تفسر هذا الموقف الإيجابي من الإسلام في وجدان ومشروع جوته بقولها "وإذا تساءلنا عن أسباب هذا الموقف الإيجابي الرائع من الإسلام، فينبغي علينا بادئ ذي بدء أن نذكر بأن الظواهر الدينية قاطبة كانت تحظى دائما باهتمامه الشديد، وأن مجمل نشاطه كان يقوم على دوافع ومعتقدات دينية. أما عن الإسلام فلا ريب في أن اهتمامه به قد ارتبط بمساعي عصره وتوجهاته. فحركة التنوير التي سادتها فكرة التسامح، رأت أهم واجباتها أن تبين قيمة الأديان الأخرى غير المسيحية. ومن ثم، بدأت أنظار دعاة التنوير في الاتجاه إلى الإسلام، لسبب بسيط هو أنهم كانوا أكثر الماما به، ولأن معرفتهم في ذلك الحين بديانات الهند والشرق الأقصى لم تصل إلى الحد الكافي للكشف عن حقيقتها الفعلية".
وعلى غير ما هو شائع خارج دوائر الدرس الأكاديمي وقاعات البحث العلمي، فإن الآداب العربية الإسلامية كان لها دور كبير وبارز في طبع كتابات من إنتاج أوروبا العصور الوسطى بطوابعها، وكانت الترجمة الجسر الذي انتقلت من خلاله بشكل أساسي أعمال خالدة من الآداب العربية والإسلامية إلى أوروبا، مثل "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" وأشعار المتصوفة الكبار كالشيرازي والخيام وجلال الدين الرومي، كل ذلك وصل إلى أوروبا وشكل عنصرا تكوينيا في ثقافة كتاب وأدباء عصر النهضة والتنوير أثمر عن تأثرات عظيمة في أعمالهم التي أنتجوها ما بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر.
عن تأثير الآداب العربية الإسلامية في الآداب الأوربية، يقول المستشرق الإنجليزي الشهير السير هاملتون جِب "1895-1971": "لقد ظل الناس حتى وقت قريب يسلمون بلا جدال -بل ينادون مقرين للشرق- بأصول بعض الحكايات الشعبية التي ازدهرت في أوروبا في غضون القرن الثالث عشر بأشكال مختلفة، مثل: الخرافات، والأمثال، والقصص الخيالية، وغير ذلك مما يوجد بينه وبين القصص الشرقي والهندي أوجه شبه لا جدال فيها. إن أدب الأسفار "الرحلات" وأدب الجغرافية الحيوانية العربيين قد خلفا كذلك آثارهما في الأدب الغربي، فالرحلات لم تعرف في أوروبا إلا لغرض الحج إلى الأراضي المقدسة، ويكاد يكون أمراً مفروغاً منه، أن انتشار عناصر الأساطير العجيبة والأخيلة الخرافية في رقع واسعة المدى قد تم بالنقل الشفوي".
ويتابع هاملتون جِب "ومن تلك المصادر الشفوية يمكننا الادعاء باحتمال كبير أن "بوكاتشيو الإيطالي" قد اقتبس الحكايات الشرقية التي ضمنها كتابه "الديكاميرون"، وكذلك قصة "سكواير" لتشوسر، فهي من "ألف ليلة وليلة"، التي ربما نقلها إلى أوروبا التجار الإيطاليون القادمون من البحر الأسود. والحق يقال: إن ثم حقائق دامغة لا يماري فيها أحد: فالأمثال الشرقية، والحكايات الشرقية، وما شابهها من مؤلفات، تمتعت بشهرة واسعة في القرون الوسيطة. وللمرة الثانية نجد في القرن الثامن عشر ما لا يقل عن ثلاثين طبعة من قصص "ألف ليلة وليلة" باللغتين الإنجليزية والفرنسية. ومنذ ذلك الحين نشرت أكثر من ثلاثمائة طبعة لهذه القصص في جميع لغات أوروبا الغربية. ولولا "ألف ليلة وليلة" ما كانت "روبنسون كروزو" ولا كانت "رحلات جاليفر". لقد صارت "ألف ليلة" مصدراً تستمد منه عناصر البناء لهيكل الرواية".
وعشرات من مثل هذه الآراء والشهادات تؤكد، بما لا يدع مجالا لشك أو تشكيك، ما للإسلام وثقافته من وجوه مشرقة وجوانب حضارية وإنسانية، وما قدمته الآداب العربية والإسلامية لأوروبا وظهر أثره وبان تأثيره في مسيرة النهضة الأوروبية وحركة التنوير في القرن الثامن عشر وما تلاها..