موسوعة مساجد مصر.. عبقرية العمارة الإسلامية

عدن لنج / بوابة العين الإخبارية

عرف المصريون فنون العمارة منذ فجر التاريخ، وقد استقر في وجدان المصري القديم ذوق رفيع سجل ملامحه بعناية واقتدار شديدين على كل ما خلَّفه من أشكال متنوعة للعمارة، التي ما تزال شاهدة على قدرة الفنان المصري على الابتكار والتجديد وفق قواعد فنية اتسمت بالذوق والجمال والتفرد، ومنذ الفتح الإسلامي لمصر (20هـ- 640م) راح المصريون يقدمون كل معارفهم المختلفة لكي يكون المسجد تعبيرًا عن الإسلام بمعناه الحضاري الكبير؛ لذا راحت المساجد تشيّد وفق رؤية مصرية خالصة، لعل بدايتها كانت جامع عمرو بن العاص الذي كان بمثابة البدايات الأولى في التصميم والزخرفة، وإنشاء ما يعرف باسم "المحراب المجوف" الذي أتقن المصريون إعداده، والمآذن التي راح المصريون يطورونها وفق قواعد فنية رائعة، فضلاً عن أنهم أول من جعل المسجد بمثابة مؤسسة اجتماعية وثقافية.

 

وعلى امتداد أكثر من 1000 عام، اكتظت القاهرة، وعموم مصر المحروسة، بالمساجد والمآذن والقباب التي ليس لها نظير في أي مكان في العالم، راوحت بين العتاقة والندرة، فخامة العمارة وبساطة التكوين، الجمال والجلال، الرهبة والسمو، وصارت القاهرة وحدها (بل حيز منها لا يتجاوز الخمسة كيلومترات طولًا وعرضًا)، مدينة الألف مئذنة ويزيد، وراحت عمارة المساجد المصرية تتطور، حتى وصلت إلى ذروة مجدها الذي لا يُضاهى في العصر المملوكي (648-923هـ/1250-1517م) الذي كان بمثابة طفرة هائلة، حينما تنافس سلاطين المماليك على إنشاء المساجد والمدارس والأسبلة، والقصور والوكالات؛ لذا جاءت عمارة المساجد تعبيرًا عن عصر من الذوق والرقي والجمال.

 

وبعد أن استقر فن عمارة المساجد الجامعة (المسجد الجامع، في الثقافة الإسلامية، هو قلب المدينة الإسلامية وأساسها، فهو ليس مجرد بيت عبادة، بل المركز الذي تدور حوله الحياة الدينية والعقلية السياسية في المدينة، وفيه كان يؤخذ قرار الحرب وتدار شؤون الأمة.. إلخ) راح المصريون يتنافسون على وقف ثرواتهم على بناء المساجد والعناية بها وتطوير وظيفتها، والتي كانت دائمًا بمثابة صفحات مشرقة في تاريخ مصر. تجلت، إذن، فنون العمارة الإسلامية بصورة لا تخطئها العين في الأبنية الرائعة لمساجد مصر المحروسة، التي لا تزال شاهدة على عظمة الفن الإسلامي، والذي يتردد على المساجد الأثرية في مصر، وفي القاهرة بصفة خاصة، لا يملك نفسه من الانبهار بما تضمه من ثراء فني رائع.

 

من هنا تأتي أهمية وفرادة وقيمة «موسوعة مساجد مصر» التي صدرت في طبعة خاصة ومحدودة (500 نسخة) عن دار الكتب والوثائق القومية المصرية، وهي موسوعة قيمة، نادرة، قديمة، تعود إلى ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، وذلك حينما أرادت وزارة الأوقاف المصرية أن تقوم بعمل علمي يخلد هذا التراث الحضاري الفريد.

تعود قصة هذه الموسوعة الفريدة إلى العام 1942م، حينما قامت وزارة الأوقاف المصرية بتشكيل لجنة متخصصة على أعلى مستوى لإخراج عمل علمي يكشف عن فنون العمارة في بناء مساجد مصر في الحقب المختلفة، ويكشف، أيضًا، عما استخدم في بنائها من خامات وصناعات، وما ازدانت به من زخارف وخطوط، فضلاً عما لعبته هذه المساجد من أدوار مهمة في تاريخ مصر السياسي والثقافي والاجتماعي، وقد قامت اللجنة بعملها على خير وجه، وأخرجت مجلدين كبيرين يحملان عنوان «مساجد مصر» صدرا أولًا باللغة العربية عام 1948م، ومثلها باللغة الإنجليزية عام 1949م.

 

ونظرًا للإقبال الشديد على اقتناء هذا الكتاب - الذي يعد وثيقة نادرة في غاية الأهمية - ونفاد النسخ المتوفرة، ورغبة من الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية في إعادة طباعته، فقد تجاوبت كل من وزارة الأوقاف ومؤسسة المصري لخدمة المجتمع ومؤسسة البيان وجهات أخرى، مع هذه الرغبة لتقديم هذه الطبعة للمهتمين بفنون الحضارة الإسلامية بصفة خاصة وعشاق الفن الجميل بصفة عامة.

وإذا كانت عدة جهات ومؤسسات رسمية، بالاشتراك مع مؤسسات أخرى، قد أعادت إصدار هذا العمل الكبير، الذي يعد تعبيرًا وتجسيدًا لدور المسجد في حياة المصريين، فضلاً عن كونه دليلاً على عبقرية الإنسان المصري الذي طبع الإسلام بطابعه الحقيقي جمالاً وتسامحًا وفنًّا وإعمارًا، فإن قيمة هذه الموسوعة وما تضمنته من مواد وصور ليس لها مثيل، تستدعي تضافر الجهود مجددًا لتوفيرها وعلى نطاق واسع لكل محبي وعشاق الفنون الإسلامية والعمارة الإسلامية وتاريخ المساجد، بل لكل مثقف مهتم بالمعرفة التاريخية والأثرية بشكل عام.

 

الموسوعة الفنية النادرة «مساجد مصر»، تتناول بالرصد والتوثيق مساجد مصر الإسلامية، في ربوع المحروسة، وما ضمته من كنوز ونوادر أثرية إسلامية لا مثيل لها في أنحاء العالم، موثقة بالكلمة والصورة الفوتوغرافية (كانت في ذلك الوقت أحدث وسيلة لتسجيل الآثار وتوثيقها على النحو الأمثل) من خلال مجموعة نادرة ليس لها مثيل من الصور الفوتوغرافية واللوحات المرسومة، بريشة كبار الفنانين من المستشرقين وعلماء الآثار والمتخصصين في العمارة الإسلامية، تبرز التفاصيل الدقيقة للخطوط والزخارف والمحاريب وغيرها من الجوانب الفنية والجمالية الخاصة بتلك المساجد.

 

تتميز صور الموسوعة بجودتها العالية، فضلًا عن أنها تمثل توثيقًا فريدًا للحظة التاريخية التي تم التقاطها فيها (العقد الرابع من القرن الماضي) بكل ما تحمله من زخم تاريخي وثقافي وعمراني، وتبرز هذه الصور بوضوح الحالة التي كانت عليها تلك الكنوز التي لا تقدر بمال في ذلك الزمان، بالإضافة إلى أن من قام بالتقاطها من المتخصصين في التصوير بناء على توجيهات من الأثريين والمعماريين الإسلاميين المشرفين على الموسوعة.

 

سيجد المغرمون بمساجد مصر القديمة، خاصة الشهيرة منها، جمالًا وروعة لا تضارع في تلك المشاهد من الصور التي تبين وتبرز جمال هذه العمارة في مساجد أحمد بن طولون بالسيدة زينب، والجامع الأزهر ومسجد محمد بك أبو الذهب ومسجد الغوري، وجامع الشيخ مؤيد المتاخم لباب زويلة، وغيرها من المساجد التي تملأ شارع المعز بطوله وعرضه في قلب القاهرة المعزية القديمة.

ولا بد من الإشارة إلى أن وزارة الأوقاف تحتفظ بأصل هذه الموسوعة ضمن قسم المخطوطات الإسلامية النادرة التي تقتنيها.