(حدث قبل عام) من وراء الحدود حكايات من اللجوء السوري (3)

تركيا(عدن لنج) خاص:

آخر مرة التقيت به كانت في شتاء عام 2012. كان يحمل رشاش كلاشنيكوف، ومحاطا بعشرات من المقاتلين المعارضين لنظام الأسد. خرج عندي من مدرسة كانت مجموعته تتخذها مقرا لها ببلدة أطمة السورية الموجودة على مرمى حجر من الحدود السورية التركية.

 

حين جاء أبو حسن (اسم مستعار لأسباب أمنية) لملاقاتي في أطمة، كان في قمة العنفوان والحماس. كان يحلم بـ"تحرير" مدينة جسر الشغور من قوات النظام، لكي يعود إلى بيته الذي احتله "الشبيحة".

 

كنت التقيت ابنه "حسن" في مخيم كليس التركي للاجئين. سألته عن المهنة التي يحلم بها في المستقبل، فقال:"أريد أن أصبح معمارجي"، أي عامل بناء.

 

حدثني والده عن معارك سليمان الحلبي في حلب. قطع حديثنا صديقه الذي تذكر بفخر كيف أنه أطلق رصاصة "في اللحظة المثالية" على جندي نظامي كان بصدد إحداث ثقب في جدار البيت المقابل، يسعى أن يمرر ماسورة بندقيته منه ليقتل مسلحي المعارضة. كانت المعارك تجري من منزل إلى منزل، وأحيانا من غرفة إلى غرفة.

 

وتمضي ثلاث سنوات.

من داخل أحد مخيمات اللاجئين أرى صورة نحيفة لذلك المقاتل السابق بجانبه يقف شاب في مقتبل العمر يتقدمان نحوي وهما يحاولان فرض ابتسامتين على وجهيهما.

 

أسأل "أبا حسن" عن صحته وعن أسرته يبدأ حديثه مباشرة:"لقد استشهد أخي في إحدى المعارك، أما زوجتي فقد ماتت بعد أن أنهكها المرض". أنظر إلى "حسن"، فإذا بعينيه تحمران، والدمع يتوقف عند مقلتيه. أربِّتُ على كتفه. يحرك رأسه أسفا، ويقول بصوت خشن :"الله يرحمها يا عمي".

 

حين رأيت "حسن" آخر مرة، كان يجلس على التراب قريبا من سيارة البث عبر الأقمار الاصطناعية. كان صوته طفوليا... لقد ذهبت عذوبته إلى غير رجعة. وأضحى يحلق لحيته.

 

يقودني الحديث مع والده إلى موضوع تنظيم ا(لدولة الإسلامية). يتأسف على ما يجري في ريف حلب الشمالي من معارك بين التنظيم وفصائل المعارضة المسلحة.

 

يعود بذاكرته إلى البدايات:"لقد استشعرت خطرهم منذ جاءوا. فقد تظاهروا بخدمتنا. قدموا في البداية مساعدات للثورة. كنت أعرف أنهم يتمسكنون إلى أن يتمكنوا".

 

يقطع خيط حديثه صوت وصول رسالة نصية على هاتفي المحمول. أختلس نظرة إلى كفيه العريضين. أتخيل كيف أن تلك الأصابع ضغطت غيرما مرة على الزناد، فانطلقت عشرات الرصاصات. ربما اخترق بعضها أجسادا بشرية لم تعد تتنفس الهواء منذئذ.

 

يعود لكلامه عن التوتر بينه وبين قيادات "داعش"، فيقول:"لقد تحديتهم أن يخيفوني. أنا مسلم قبل أن يأتوا إلينا. ديننا دين رحمة لا دين قتل وتدمير. والسوريون لم يكونوا بحاجة لهؤلاء الحجازيين والمغاربيين الذين لا يفقهون في الدين شيئا. كيف لشاب في العشرين من عمره أن يصبح صاحب إفتاء".

 

حرارة الصيف تبلغ درجة لا تطاق. كنا جالسين داخل السيارة. "حسن" ظل يستمع إلى والده من مكانه في المقعد الخلفي. يكمل الأب كلامه عن علاقته برجال تنظيم البغدادي:"أنا لم أكن أكتفي بالكلام. لقد تحديت أحد قادتهم أن أزوره حيث هو ليدافع كل منا عما لديه من حجج. وقد فعلت. لقد توجهت إلى مقره، بعد أن ارتديت حزاما ناسفا".

 

رفعت حاجبي وأنا أسمع هذه المعلومة. فهذه هي المرة الأولى التي أتحدث فيها مع شخص سبق له أن ارتدى حزاما ناسفا. في عام 2013 رأيت شابا سعوديا يخطب في حشد من السكان بريف حلب. كان يشرح لهم "نعيم الشهادة". مضت شهور معدودة بعد ذلك، فإذا بي أشاهده في مقطع فيديو على يوتيوب، وقد ودع رفاقه ثم قاد عربة مدرعة نحو مطار منَّغ العسكري السوري، لنرى تفجيرا مدويا بعدها. لقد ذهب الشاب السعودي النحيف إلى غير رجعة.

 

سألت "أبا حسن" كيف تلقّاه مسؤول تنظيم البغدادي، فقال:"لقد سألني لماذا أرتدي حزاما ناسفا، فقلت له لماذا أنت في الأصل ترتدي حزاما ناسفا".

 

سبق لـ"أبي حسن" أن أدخل السجن في سورية قبل عام 2011 ، وخرج ضمن من خرجوا في المظاهرات السلمية المطالبة بالتغيير. ثم انتقل لحمل السلاح.

 

الآن فقد زوجته، وأخاه، وأربع سنوات من عمره، وقبل أيام دمرت طائرة حربية سورية منزله بصاروخ فراغي.

 

ما زال "أبو حسن" متشبثا بالأمل في الانتصار على النظام السوري، وعلى من يصفهم بـ"الخوارج".

 

سلمنا على بعضنا البعض، وغادر وهو يجر قدميه المتعبتين. لقد ترك السلاح والقتال، ليتفرغ لرعاية أطفاله الصغار الأيتام.

 كتب\الإعلامي عبدالرحيم الفارسي