(حدث قبل عام)..حميميات مقدسية (6)

القدس (عدن لنج)خاص:

 

تطلع أبو علّوش نحو الأطلال البعيدة وقال دون أن يلتفت نحوي:"لا نرى أي أثر للقصف". تحت أقدامنا كان ثلاثة أطفال يتسللون داخل سرداب مكشوف، ووالدهم يلاحقهم لالتقاط صور تذكارية لهم. نزعت النظارة الشمسية عن عيني لأتمكن من مشاهدة أفضل للأطلال البادية لنا من مسافة غير بعيدة.

 

فحأة سمعنا دوي انفجار قوي. التفت إلى أبي علوش، فإذا به يهز رأسه. قلت له:"هذه قذيفة مدفعية!". إذن النبأ الذي سمعناه قبل قليل على أثير إذاعة فلسطينية كان صحيحا. داخل السيارة قالت المذيعة إن قرى الدروز في جنوب سورية تعرضت لقصف عنيف خلال الصباح.

 

انتهى والد الأطفال من التقاط الصور لفلذات كبده. كان أحد الثلاثة ينظر من ثقب في تل الغرام، يطل مباشرة على بقايا مدينة القنيطرة السورية القديمة.

 

ربما هنا وقف جد الأطفال الثلاثة حاملا سلاحه في أكتوبر من عام 1974. أو ربما فعل ذلك أحد رفاقه في الجيش الإسرائيلي.

 

مدينة القنيطرة الجولانية منذ ذلك التاريخ أصبحت حطاما لا حياة فيها، إلا للأعشاب البرية التي تتناسل عاما بعد عام، ومعها تتوالد أجيال من الحشرات والزواحف.

 

هنا توفف الزمن. يقول لي أبو علوش:"ذلك المبنى الكبير مستشفى سوري".

 

يقف ذلك المبنى وحيدا. لم يدخله مريض منذ تلك الأيام الرمضانية البعيدة. فقد دكت القوات الإسرائيلية ما حوله من مباني دكا. ما شهده حي الشجاعية في غزة قبل أربعة أسابيع، يعطينا صورة عما شهدته القنيطرة قبل واحد وأربعين عاما.

غير بعيد عن أطلال القنيطرة نبتت قنيطرة حديثة. الكثير من بنيانها تعرض بدوره للدمار في الحرب الدائرة بين المعارضة السورية المسلحة، والقوات الموالية لبشار الأسد، الذي كان والده حافظ يقود معركة أكتوبر عام 1974. ضاعت أجزاء من الجولان في تلك الحرب، لكن حافظ بقي في الحكم. وفي عهد وريثه ضاعت سورية الحضارة والشعب، وهو مازال في قصره بسفح جبل قاسيون.

 

استدار أبو علوش نحو اليسار قليلا وأشار بأصبعه إلى جبل يكاد يغيب خلف الغيوم. قال:"ذاك هو جبل الشيخ". ركزت نظري جيدا فإذا بشبح جبل عال يبدو لي، وفي قمته أجهزة رادار تناطح السحاب.

 

حثني صديقي على الاسراع للاقتراب من ذاك الشبح.

بتلابيب جبل الشيخ تتعلق قرية مجدل شمس الدرزية. هنا تنقسم البلدة والنفوس بين جزء خاصع لإسرائيل، وآخر لا نرى منه سوى بناية بها مدرجات تشبه ملعبا لكرة اليد. هناك تظهر لنا أشكال ثلاثة أو أربعة أشخاص. نحاول الاقتراب لنراهم بشكل أفضل. يمر بجانبنا ثلاثة شبان دروز، على صهوات ثلاثة من الخيل المطهمة. يوقف أبو علوش سيارته، ندرك أننا أمام السياج الفاصل بين طرفي الجولان. نهم بالعودة إلى الشارع الرئيسي. الناس هنا منهمكون في حياتهم اليومية. وبين الفينة والأخرى يتواصلون مع إخوتهم في الطرف الآخر... بواسطة مكبرات صوت. لقد تجمدت الجغرافيا هنا منذ حرب الأيام الستة في يونيو من عام 1967. حاول السوريون تغيير مجرى الجغرافيا في حرب أكتوبر بعد ذلك بسبعة أعوام، لكنهم فشلوا.

 

نظر أبو علوش إلى قمة الجبل، وقال:"هناك في تلك المحطة، تعمل النخبة من عناصر المخابرات الاسرائيلية".

في قمة ذلك الجبل ذاته، وقف في أكتوبر من عام 1974، رجال من نخبة أخرى. كلهم ولدوا في بلد اسمه المغرب الأقصى. كان الملك الراحل الحسن الثاني قد قرر المشاركة في تلك الحرب، فأرسل تجريدة من قوات النخبة إلى الجولان بقيادة الجنرال عبدالسلام الصفريوي. أبلى الجنودالغرباء بلاء حسنا. تمكنوا من الصمود في جبل الشيخ، الذي يمنح لمن يسيطر عليه ميزة استراتيجية تجعل تحت ناظريه كلا من تل أبيب ودمشق. لكن الجنود المغاربة لم يجدوا من يوفر لهم الغطاء الجوي، فقام الطيران الإسرائيلي بالواجب، وقتل العشرات منهم.

 

أتذكر ذلك العسكري المتقاعد الذي جلس يتحدث في أواخر ثمانينيات القرن الماضي عن رفاقه الذي قضوا في الجولان. ظل يمرر كفه بعصبية على لحيته الفضية التي لم يحلقها لعدة أيام وهو يردد:"لقد رأيت جسد أحد جنودنا يتفحم أمام عيني. كنا وحيدين هناك في ذلك الجبل. لم تصلنا أي إمدادات أو إسناد جوي عربي".

هناك مازالت قبور أولئك الرجال، بعيدا عن جبال الأطلس والريف التي تررعرعوا في ربوعها.

تتحرك السيارة. وسط مجدل شمس يقوم تمثال سلطان باشا الأطرش، ذلك القائد الدرزي الذي تصدَّر الثورة ضد الانتداب الفرنسي الذي حاول تقسيم سورية في عشرينيات القرن الماضي. لكنه، ولسخرية القدر، عاش حتى عام 1982، لكي يرى الجولان مقسما، ويرى إسرائيل تضم الهضبة إليها قبل أن يوارى جثمانه الثرى. هذا الثرى الذي يحوي الجثامين، يحوي أطنانا من الألغام.

 

على طول الطرق الملتوية في هضبة الجولان تمتد أميال وأميال من الأسلاك الشائكة التي علقت عليها لوحات تحذر من خطر الألغام المتربصة بضحاياها هناك. لا أحد يجرؤ منذ سبعة وأربعين عاما على الدخول اليها. وحدها الأعشاب البرية تمرح هناك وتسرح. لا يكسر رتابة المنظر سوى هياكل سيارات محطمة منذ زمن ولى، ومباني تركها الجيش السوري. في إحدى الطرق الترابية أبى شخص ما إلا أن يعلق في الهواء سيارة عسكرية قديمة. نظرت إلى أبي علوش، فرد على التساؤل الذي كاد أن ينط من عيني:"إنها سيارة أحد الضباط السوريين في ذلك الزمن".

 

هنا الزمن توقف.

يقف أبو علوش في مرتفع يطل على بحيرة طبريا. مياهها تتلاطم. قبل سنوات وعد الرئيس بشار الأسد في أحد خطاباته باسترجاع الجولان والسباحة في مياه طبريا. رد عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي ساخرا بدعوته للسباحة فيها دون حاجة للحرب.

 

يشير أبو علوش بأصبعه إلى مدينة طبريا المقابلة لنا. يقول لي التفت قليلا الى يسارها.

يتوقف بجانبنا رجل مسن وزوجته، يتحدثان في ما بينهما باللغة الروسية وهما يشيران إلى البحيرة تحتنا.

ألتفت إلى يسار مدينة طبريا العليا من جهة الغرب، تماما كما طلب مني أبو علوش.

 

يقول صديقي بعد أن ركزت عيني على فجوة بين مرتفعات المنطقة:"هناك توجد قرية حطين!".

في تلك البلدة جمع صلاح الدين الأيوبي قبل تسعة قرون قواته لمنازلة جيوش الصليبيين. منع عنهم الماء وباغثهم ليلا بأن طوقهم، فأوقعهم ما بين قتلى وأسرى. وانتهت المعركة لصالحه. لكن دوام الحال من المحال.

استعجلت أبا علوش كي نكمل جولتنا على الحدود مع لبنان، فكانت زيارة مدخل بلدة الغجر المقسمة بين إسرائيل ولبنان، مرورا بقرية هيلا التي ينحدر منها الجندي جلعاد شاليط الأسير سابقا لدى حماس، هبوطا إلى نهاريا، فعكا، فحيفا... إلى أن أسدل الليل ستائره.

 

امتلأت الطرق بالسيارات بعد أن انتهت فترة السبت..

حان موعد العودة إلى القدس... تلك العروس.

جاء السائق أبو سعيد ليعيدني إلى الفندق. استأذنني في تشغيل الموسيقى داخل التاكسي. ومن هناك انطلق صوت جوليا بطرس مجلجلا:

 

"أطلق نيرانك لا ترحم

فرصاصك بالساحة تكلم

وعدوك جاءنا يتوهم

سيموت في أرضنا

أو يهزم

أطلق نيرانك لا ترحم".

في هذه الأرض، وعلى مر العصور، ظلت الهزائم والانتصارات تتبادلان المواقع... دون أن يستسلم أحدهما للآخر...

 

لك كل الشكر والامتنان يا أم علوش

لك كل التحية والتقدير يا أبا علوش

لقد أكرمتما الوفادة، و"ما قصرتما".

 كتب\الإعلامي عبدالرحيم الفارسي