(حدث قبل 3 أعوام) حميميات قاهرية ٨ - الأقصر (2)

القاهرة (عدن لنج)خاص:

صرخ ضابط الجيش في وجه المحامي الشهير الذي يظهر بشاربه الكث المفتول على شاشات التلفزيون كخبير في القانون سكت الأخير وهو يرى الضابط الأسمر ينفذ تهديده بإغلاق نقطة التفتيش فورا في وجه طابور السيارات والشاحنات الطويل الساعة تشير الى التاسعة والنصف ليلا. انصرف الضابط نحو العربة المدرعة مقسما ألا يمر أحد من هذا المعبر بمدينة نصر، شرقي القاهرة، إلا في الساعة السابعة من صباح الغد انتشرت البلبلة والقلق في صفوف سائقي السيارات الذي كانوا يحاولون إقناعه بحقهم في المرور بموجب القانون الذي يستثني الأطباء والمجندين والإعلاميين والمسافرين القادمين في رحلات متأخرة عبر المطار انشغل الضابط، وهو برتبة رائد، بارتشاف مشروب كوكاكولا لعله يهدئ أعصابه.


كان موقفه مختلفا عن ذلك الذي كان عليه زميلان له خلال منتصف النهار. إذ عمد أحدهما إلى ضرب زميله الجالس معه فوق العربة المدرعة ضربة خفيفة بالكوع ليثير انتباهه إلى منظر يبدو أنه أثار اهتمامه. فقد كان مارا تحت أعينهما شاب أسمر نحيف يتبختر في مشيته، تاركا يده اليسرى تتمايل جيئة وذهابا بعد أن شبكها مع يد سيدة أوروبية تبدو في أواخر العقد الخامس من عمرها. 
كان الاثنان يرتديان ملابس صيفية قصيرة، في تناقض تام مع العساكر وعناصر الأمن الذين ظلوا يرمقونهم باهتمام في مدخل مبنى أمن مدينة الأقصر.


سكان المدينة والقرى المجاورة يعتبرون ذلك الشاب محظوظا في مثل هذه الظروف التي يحتضر فيها القطاع السياحي.


لم أفهم معنى "العيَّاشة" حين كانت تحدثني رانيا، الصحفية الأقصرية الشابة التي رافقتني طوال رحلتي بالأقصر، عن عادات الزواج في المنطقة. قالت "لقد أصبح الكثير من العائلات بمنطقتنا تشترط على أي رجل يتقدم لطلب بناتها، أن تكون لديه عياشة". 


أول مادار ببالي هو أن "العياشة" ربما تقصد بها المعاش أو الراتب الثابت. "لا، العياشة هي امرأة أوروبية متقدمة في السن، تتزوج برجل صعيدي في مقتبل العمر، وهي تتولى مصاريفه ومصاريف البيت هنا في منطقتنا"، تشرح رانيا.


- لكن ألا تشعر المرأة الصعيدية بالغيرة على زوجها من المرأة الأوروبية؟؟ أسألها ببراءة، فترد فورا:" يا أستاذ دول بيتعاملو على أساس إنو زوجها في الكويت أو السعودية. اللي بيهمها هو إنويجيب لها كفاية فلوس".


ارتفعت في محافظة الأقصر نسب الطلاق بشكل كبير في السنوات الثلاث الأخيرة. يقول محمد، المستثمر في مجال السياحة الذي كون نفسه في النمسا قبل العودة منذ سنين إلى مصر، إن ذلك يرجع في المقام الأول إلى تسريح الآلاف من العاملين في الفنادق والبازارات، أو في مهن موازية كسائقي سيارات الأجرة.


ومما زاد الطين بلة الاضطرابات التي أعقبت أخيرا إزاحة الجيش للرئيس محمد مرسي وفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في القاهرة.- ياسيدي والله احنا ما يفرقش معانا حكم العسكر والمدنيين، ده احنا طول عمرنا عايشين بما يشبه الاستقلال الذاتي هنا في الصعيد. يقول همام، المدرس الشاب بينما كنا نتجول في أحد حقول الفاصوليا والذرة بقرية البعيرية القريبة من الأقصر.


"إسمع يا أستاذ -يمضي همام شارحا- الدولة لا تصرف علينا هنا شيئا، نحن بالعكس نوفر لخزينتها أموالا جمة من عائدات السياحة المرتبطة بالآثار الفرعونية الكثيرة في منطقتنا".


يتدخل محمد، مسؤول تعاونية زراعية محلية، ليذكر صديقه همام بأن الفضل كله يعود فقط "للزعيم جمال عبد الناصر الذي قاد ثورة ١٩٥٢ وحررنا من العبودية والاستغلال".


يقاطعه همام وقد زادت شهيته للكلام:"اسمع يا باشا. هذه الأرض التي نقف عليها كانت في ملكية باشوات، وكان آباؤنا مجرد عمال سخرة لا ينالهم من خيراتها إلا شظف العيش. ولما جاء الزعيم عبدالناصر، الله يرحمه، قام بتوزيع الأراضي على الفلاحين، وبفضله دخلنا المدارس وأصبحنا أناسا متعلمين".


بينما كنا نتحدث، كان العم محمود منهمكا في تقليب الأرض بفأسه ك، وجبينه الذي لوحته أشعة الشمس، يتصبب عرقا. فجأة توقف عن الحفر وصاح بعد أن استمع خفية للكلام الجاري بيننا:"والله لن نسامح الإرهابيين الذين عكروا علينا معيشتنا. تصوروا أن كيس سماد الأرض ارتفع ثمنه من ثمانين جنيها إلى مائة وستين. أتدرون لماذا؟ لأن أصحاب الشاحنات يخافون من أن تتعرض لسطو الإخوان المسلمين أثناء سفرها الطويل من الاسكندرية أو القاهرة إلى الأقصر".


محمود ليس الوحيد الذي يعاني من اضطراب الخدمات. فما إن حل الظهر حتى انقطعت خدمات الهاتف المحمول والإنترنت بمحافظة الأقصر لمدة تجاوزت ست ساعات.

بقيت أفكر في كلام همام ومحمود ومحمد عن الإخوان. التقيت هنا في الأقصر بالمحافظ، وبرئيس الأمن، وبمستثمرين وتجار، لكن لم تتح لي فرصة لقاء واحد من الإخوان المسلمين. لقد أصبحوا مطاردين في كل مكان. أخيرا جلس على مقربة مني شاب ملتح، يبدو عليه القلق. أمامه بأربعة صفوف جلس راهبان من الكنيسة القبطية. ظلت مضيفة الطيران السمينة تمضي بسرعة بين الصفوف دون التوقف عن تمطيط شفتيها السميكتين وهي توزع المشروبات.

 

فجأة انطلق صوت أنثوي عبر الميكروفون "سيداتي وسادتي لقد اقترب موعد الهبوط في مطار القاهرة، الرجاء ربط أحزمة المقاعد بإحكام، ووضع ظهر مقاعدكم بشكل مستقيم، وإرجاع الطاولات التي أمامكم إلى أماكنها".


ترتطم عجلات الطائرة بأرضية مطار القاهرة. أشعل الهاتف المحمول. الانترنت يشتغل هنا. أول رسالة تقول: "الإفراج عن الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك ونقله بطائرة هيليكوبتر إلى مستشفى المعادي العسكري".
مبروك يا ريس.
مصر على صفيح ساخن،

كتب\الإعلامي عبدالرحيم الفارسي.