(آخِر اللَّسكَر): يَمَنيّو بريطانيا المخفيون

لندن (عدن لنج) المدن:
"نحن جميعاً على قلب رجل واحد في نيوبورت، وهدفنا طرد الزنوج"، كان هذا ما نقلته جريدة "سويز ويلز أرجوز" عن أحد المشتركين في أعمال العنف التي اجتاحت الموانئ البريطانية، صيف العام 1919، وعُرفت حينها بأحداث "الشغب العربي". 
 

بدأت الاضطرابات التي استمرت شهوراً وتطلبت تدخل قوات الجيش البريطاني لإعادة النظام، عندما اعتدى قيادي نقابي في ميناء "ساوز شيلد" الإنكليزي على بحّار يمني أثناء تسلمه للعمل على متن سفينة راسية في الميناء، وتطور الأمر سريعاً إلى هجمات على مساكن البحارة اليمَنيين والأجانب في المدينة وتبادل لإطلاق النار. وفي خلال أيام قليلة امتدت الاضطرابات إلى ويلز وباقي موانئ الشمال الإنكليزي وحتى لندن. كان مَن يشير إليهم رجل نيوبورت بالزنوج، هم "لَسكَر" اليمن. 
 

ينطلق كتاب "آخِر اللَّسكَر"، للباحث البريطاني، محمد صدّيق سيدون، من أحداث "الشغب العربي" ليتتبع تاريخ أقدم جالية عربية استقرت في بريطانيا، من بحارة اليمن الذي عملوا في السفن البريطانية واستقروا في الموانئ الإنكليزية منذ نهاية القرن الثامن عشر. ويعود كتاب سيدون إلى تاريخ البحارة اليمَنيين الذين تسيدوا خطوط الملاحة وحركة التجارة إلى الهند والشرق الأقصى، حتى القرن الخامس عشر، والتحقوا بالعمل في سفن شركة الهند الشرقية، التي استعانت بالألوف من بحارة المستعمرات، والذين أطلق عليهم "اللَّسكَر"، (في تحريف طفيف لكلمة "العسكر" العربية)، محاولاً استكشاف "لامرئيتهم" التاريخية. 


يتوقف سيدون عند لحظات مفصلية في تاريخ الهجرة اليمَنية وإسباب لامرئيتها. ففي العام 1839، وبعد إعلان بريطانيا الحماية لميناء عدن، أصبح بحارة المدينة، وغيرهم من اليمنيين الذي التحقوا بالعمل في السفن الراسية فيها، رعايا بريطانيين. لكن، حتى العام 1937، عندما أصبحت عدن مستعمرة ملكية، وانفصلت إدارياً عن حكومة الهند البريطانية، كانوا "لَسكَر" اليمن لامرئيين داخل تصنيف رعايا الهند البريطانية. ساهمت تلك التصنيفات الفضفاضة وغير الدقيقة، في التعمية على تضحيات اليمَنيين الذين التحقوا، كما غيرهم من سكان المستعمرات، بالأسطول الحربي والتجاري البريطاني أثناء الحربين العالميتين، وسقط مئات منهم في المعارك البحرية والغارات على الموانئ البريطانية.


اكتسب اليمَنيون تصنيفهم كعرب، للمرة الأولى، مع أعمال الشغب التي استمرت بشكل دوري بين الحربين، بفعل حالة الركود الإقتصادي وغضب السكان المحليين من منافسة البحارة الأجانب لهم على الوظائف الشحيحة. لكن الصفة العربية سرعان ما تلاشت، بعدما انتقل الكثير من يمَنيي الموانئ البريطانية إلى العمل في مصانع الصلب والصناعات الثقيلة، وتفرقوا بين ليفربول ومانشستر والمدن الكبرى في الشمال الإنكليزي، ليذوبوا بين المهاجرين من الهند ومستعمرات الكاريبي، مكتسبين تصنيفات متنوعة كملونين، أو هنود، وأحياناً أخرى كزنوج أو مُسلمين، ما شكّل سبباً كافياً لاستهدافهم لاحقاً في أعمال العنف الإثني، والتي شنتها حركة "الجبهة القومية" اليمَينية طوال عقد الثمانينات.  

لا يكتفي سيدون بالإشتباك مع ظاهرة الهجرة إلى الميتروبول، بوصفها سرديات عن التهميش والإضطهاد والاستغلال، متضمنة في عمليات المنظومة الاستعمارية الرأسمالية وربطها بالحقبة مابعد-الاستعمارية النيوليبرالية. بل يفرد الجزء الأكبر من كتابه لتجارب اندماج أجيال من أبناء الجالية اليمَنية في المجتمع البريطاني، وانخراطها أيضاً في الشأن اليمني وصراعاته. فبين نقابات البحارة اليمنيين التي تأسست مطلع العشرينات، ونضالاتهم في المحاكم البريطانية ضد قوانين العمل التمييزية التي أصدرتها الحكومة بعد شغب 1919، مروراً بنشاط الشيخ والمصلح الديني اليمني عبدالله الحكيمي، وعمله الإصلاحي في مجالات التعليم والمرأة بين أبناء الجالية، والأنشطة السياسية المناهضة أو المؤيدة لنظام الإمامة في اليمن، وصولاً إلى عشرات المراكز الثقافية والإجتماعية اليمنية النشطة في شمال إنكلترا وويلز.. تبدو معضلة الجالية اليمنية، ليس في إنزوائها وإنغلاقها أو لامرئيتها، بل في تشتتها بين انتماءات موروثة منقسمة على خطوط القبيلة والحزب السياسي، والطائفة الدينية، وتنميطات فرضت عليهم في موطنهم الجديد، كبريطانيين عرب أو مسلمين. 


في العام 1980، رفعت حكومة اليمن الجنوبي أخيراً، العقبات القانونية المعيقة لإلتحاق زوجات المهاجرين اليمنيين وأطفالهم بهم، والتي كانت فرضتها في الماضي لضمان تدفق تحويلات العاملين في الخارج. ولاحقاً، ومع إعلان الوحدة اليمنية في العام 1991، التمّ شمل العائلات اليمنية في بريطانيا، وتداعت الفوارق بين أبناء جنوب اليمن وشماله في المهجر. وبعد حرب الخليج الأولى، وطرد السعودية للعمالة اليمنية، عاد الكثير من اليمنيين الذين هاجروا عكسياً إلى الخليج في فترة الركود الإقتصادي البريطاني، إلى شمال إنكلترا وويلز. ومنذ العام 1995، وصعود نجم الملاكمة البريطاني يمني الأصل، "برنس" (نسيم حميد)، اعترفت وسائل الإعلام البريطانية أخيراً بتصنيف "البريطانيين اليمَنيين"، وأعادت اكتشاف تاريخ الجالية اليمنية. وفي العام 1998، ساهمت الجالية اليمنية في ليفربول بشكل كبير في انطلاقة وتمويل مهرجان ليفربول السنوي للفنون العربية، والذي أصبح واحداً من أهم الفاعليات الثقافية في بريطانيا.  

اليوم، نال يمنيّو بريطانيا بعض الإعتراف ببريطانيتهم ويمنيّتهم على حد سواء، لكنهم ما زالوا يحملون إرث تاريخ طويل من المعاناة في غرف محركات الفحم في السفن البخارية، ومن العمل الشاق في مصانع الصلب التي لم تعد تعمل اليوم، إضافة إلى تضحيات غير معترف بها في حروب موطنهم الجديد، وخيبات الأمل في ثورات الربيع العربي، ومواجهات متجددة مع موجات الإسلاموفوبيا والعداء للأجانب وهي موجات لا تختلف كثيراً عن سابقاتها. هكذا، يكشف كتاب سيدون، رواية تاريخية شديدة التعقيد، للهجرة والشتات، والإندماج والتهميش، وسِيراً شخصية محملة بالمعاناة والنجاح أيضاً، كفيلة بدحض التنميطات الاختزالية الرائجة عن المهاجرين والإسلام والعرب، والتي لا تحملها مخيلة الغرب وحده، بل نجدها في مخيلتنا نحن أيضاً.