الموت (في هذا البلد)يهوي في أعماق سحيقة

لحج(عدن لنج)خاص:

اللعنة على هذه الحرب التي وشوشت لقذائفها بإحداثيات روحي فحولت مناطق شاسعة منها إلى خراب في وطن يصبح فيه الزفير ليس ردة فعل للشهيق ويصبح فيه التنفس جرماً والهواء عدواً والأمل مخاطرة قد تُكلفنا غالياً. 

وقت الفراغ ذلك الذي تقضيه بين مجزرتين محاولاً المحافظة على صحتك النفسية وأنت تُحدق في عين الحزن .. تسأل نفسك : كيف تتناسل منها كل هذه العذابات ، كيف يموت الأبرياء هكذا ، ألم يزعج السماء بعد كل هذا الصراخ والعويل ؟ ألم تتعب الأرض من شرب كل هذه الدماء ؟!! والضحايا لِمَ لم تتسنى لهم فرصة أخيرة لكتابة وصية ما على الأقل ، هل ماتوا حقاً ، أم أنهم ما زالوا نياماً فلا هم استيقظوا ولا نحنُ اكترثنا بنومهم الطويل ..؟ 

كيف لرئتي الصغيرة أن تحمل أوجاع الجميع ، كيف لها أن تبلع كل هذا الهواء المسموم ثم تستمر في التنفس ليومٍ آخر ؟. هل من حسن حظي أني ما زلتُ على قيد الحياة أم من سوء الحظ أنني لم أزل أتلعثم في وطن يُعنفني بشدة .. يصرخُ في وجهي حين أتوسله أن يمنحني بعض الوقت و ألا يضع اسمي على قائمة ضحايا المجزرة القادمة . 

لا شهود عيان على تلك اللحظات الآخيرة التي سبقت إنفجار موتنا . ليست أشلائنا من تُعلن ذلك بل أرواحنا التي تذوي بصمتٍ مخجل حين تخنقنا كل الغازات السامة لكن الرئات لم تزل تتنفس .. الموت في هذا البلد يهوي في أعماق سحيقة ، لكلٍ منا ارتطامه الخاص .. تهوي أسراب البشر وتنفجر في دهشة السؤال: هل سيمنحنا الموت وقتاً بدل ضائع قبل الارتطام الأخير ؟. هذا الوقت قد يُشكل فارقاً في تعديل نتيجة مباراة كرة قدم أو إصلاح ذات البين بين عاشقين مجروحين أو ترميم أحلام قديمة وإعادة توضيبها في خزانة الذاكرة . لكن ماذا عنا نحن ؟ هل سيمنحنا الموت وقتاً لننفض الغبار عنا ونرتديه مجدداً لنستقبل قذائفه بشجاعة ؟. 

إنني الآن بحاجة ماسة لتلك القدرة العجيبة على تفادي أخبار الموت المحيطة بي كقدرتي السابقة في تفادي الموت نفسه الذي تجسد في تلك الرصاصة التي كادت أن تخترق رأسي قبل عامين ونصف عند إندلاع حرب 2015. في تلك الحرب فقدت أفراداً من أسرتي ، فقدت صديقتي .. فقدتُ الكثير من أصدقاء الطفولة الذين قاتلوا في كل الجبهات ، فقدتُ عدداً كبيراً ممن أحبهم ليس بسبب الموت وحده بل بسبب أنّه لم يمنحني الوقت بدل الضائع الذي كان به يمكنني التحكم في النتائج وإحراز بعض النجاحات أمام كل هذه الخسارات العريضة . 

قال لي أخي: لقد كدتِ تُقتلين، شاهدي الرصاصة مرت من أين ؟ يا لهم من أنذال كيف يطلقون النار على سيارة تقل مدنيين هاربين من جنون الحرب !! 
- لماذا لم نمت في حرب 1994 عندما سقطت تلك القذيفة بمحاذاة سيارتنا ..كنا أطفالاً صغاراً ، كانت أمي ستنجب بدلاً عنا ولن يؤلمها كثيراً خسارتها لنا كالآن ، بعدها وضعت يدي في أذنيّ وبكيت ..احتضنني أخي واستسلمنا معاً في بكاء طويل لا إنقطاع له . 

كنتُ أعتقد أنّي تدربت جيداً لهكذا لحظة فاصلة من العمر ، فذات المشهد عشته سابقاً حين كنت أبلغ من العمر ست سنوات فقط . 
الموت حين أمسك بيدي ودعاني لرقصة فالس أخيرة .. كان الانسجام بيننا واضحاً إلا أنني دستُ على قدمه فمالت حلبة الرقص بيننا ونجوت من رقصة الموت تلك !. 

الغضب العارم لهذه الحرب اقتنص كل محاولاتي لطبع قبلة افتراضية على وجهها المشوه ، أليست القبلة رسالة سلام لهذه الأرض المتعبة ؟، رائحة عطرٍ تُبدد روائح الموت والبارود ، وقتاً ( بدل ضائع ) نتسلل جميعاً في دقائقه .. نتعثر وننهض من جديد لتستمر المحاولات في الدوس على قدم الموت ليسقط مذبوحاً ويغادر أرواحنا لتُمارس الحياة كما تشتهي . 



الصورة : 
من ذكريات الحرب في لحج التقطت في أغسطس 2015 لأحد الشباب مستلقياً على الأرض متوسداً حذائه يقتنص هدنة ما أو لربما يرتاح من تعب رقصه الخطير مع الموت . 
-بعدسة قانص اللحظات الإستثنائية الرفيق Adel Allawi

كتب\شيماء باسيد