كيف بدأت ملامح إيران الخمينية تظهر من داخل قصر الشاه؟

عدن لنج_طهران

كان العام 1979 مفصلا بارزا في تاريخ الشرق الأوسط والعالم. شهد حدثا لا تزال تأثيراته ماثلة بعد أربعين عاما، وهو قيام “الجمهورية الإسلامية” في إيران. يوم 1 فبراير كان العالم يتابع باهتمام الطائرة الفرنسية الخاصة القادمة من باريس وعلى متنها رجل الدين الإيراني آية الله الخميني الذي قلب، من منفاه الفرنسي، عرش الشاه محمد رضا بهلوي.

لم يكن أحد مهتما بما يحمله الخميني تحت عمامته، وما يخبئه للملايين من الإيرانيين الذين كانوا في انتظاره، وللغرب الذي كان كل همه منصبا على السيطرة على الغضب الشعبي في إيران، في فترة تموج بالمتغيرات حيث الحرب على الشيوعية في أفغانستان، والوضع المتقلب في الهند الصينية، والنشاط السياسي في بلدان الشرق الأوسط.

كان الغرب يرى بضرورة احتواء الوضع في إيران حتى لو لزم الأمر التخلي عن حليفه الشاه، ودعم رجل الدين. بعد أربعين سنة من ذلك، توفي خلالها الخميني لكن بقي فكره ونظامه ووصاياه التي حولت إيران إلى بلد “مارق”، يعود الغرب ليتحدث عن تغيير النظام.

لكن، الأمر ليس بذات السهولة التي تم بها استبدال الشاه بالخميني، فالوضع مختلف، من حيث دور إيران، كما التفاصيل العالمية المحيطة. ويبين هذا الاختلاف الباحث والمؤرخ ستروب تالبوت، الذي يعود في شهادة له نشرها مركز بروكينغز الأميركي، تفاصيل عن الأسباب التي أحيط بسقوط إيران الشاهنشاهية. ويروي تفاصيل عاشها عن قرب بشأن كيف بدت ملامح إيران الخمينية تظهر من داخل قصر الشاه محمد رضا بهلوي نفسه.

 

الفضل يعود بالأساس إلى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون والحرب الباردة في ازدهار عهد محمد رضا بهلوي. فقد أقنع الوضع في الهند الصينية نيكسون بأن الولايات المتحدة يجب أن تفوض احتواء التوسع الشيوعي على الدول الواقعة في المناطق الضعيفة، التي يحكمها قادة ذوو ميول غربية، مجهزين بجيوش هائلة، ومعروفين بأنظمتهم المستقرة.

كانت إيران تحمل جميع هذه السمات الأربع، أو هذا ما اعتقده صانعو السياسة في الولايات المتحدة. لقد اعتبروا الشاه نائبا موثوقا، ومشرفا على القانون والنظام في المناطق في غرب آسيا. أما الشاه فقد كان ينظر إلى الماضي البعيد والمستقبل. مع أقوى سلطة في العالم إلى جانبه، سعى لاستعادة مجد وهيمنة الإمبراطورية الفارسية.

في سنة 1971، بعد عامين من إعلان نيكسون خطته (تنصب إيران شرطي المنطقة)، حضر 68 من رؤساء الدول اجتماعا استمر خمسة أيام في مدينة برسبوليس، العاصمة الفارسية القديمة. كان الكافيار والسجاد محليين، لكن كل الكماليات الأخرى بدت مستوردة. في خطابه إلى المدعوين وجيرانه، ظنّ الشاه أنه كان خليفة قورش الكبير.

كنت مراسلا تابعا لمجلة تايم، وكان هذا الحدث وراء زيارتي الأولى إلى إيران. لقد جئت مبكرا، ولم أحضر بعض الاحتفالات. وبقيت بعد ذلك لمقابلة الإيرانيين الذين كانوا غير راضين، وفي بعض الحالات غاضبين: من طلاب ويساريين وإسلاميين كانوا من أتباع آية الله الخميني.

بعد مغادرة الزوار الأجانب، تم توزيع رسالة من الخميني إلى أتباعه الإيرانيين عبر تسجيلات من منفاه في العراق تقول “اجعل صوت الشعب الإيراني المضطهد مسموعا في جميع أنحاء العالم. دعهم يطالبون بأن ينتهي هذا النهب والإهدار، وأن يتوقفوا عن التصرف تجاه شعبنا بهذه الطريقة، وأن تنفق ميزانية الحكومة الضخمة على الناس الجوعى.

أقول لك بوضوح أن المستقبل أمامك مظلم وخطير، وأنه من واجبك المقاومة وخدمة الإسلام والمسلمين”. بعد سبع سنوات، كان الشاه على حافة المنفى، وكان الخميني يستعد للعودة كقائد أعلى في إيران.

كانت الحكومة الأميركية تستيقظ ببطء من أوهامها، وذلك لأن الاحتجاجات والعنف المصاحب تكثفا في أوائل سبتمبر. عندما كنت أستعد لرحلة لإيران لأرى الأوضاع بنفسي، كان زخم الثورة يزداد كل ساعة من كل يوم. وكان العديد من وزراء الحكومة الإيرانية الذين توقعنا أن نقابلهم قد طردوا، أو فروا من البلاد.

غير أن أحد المواعيد كان لا يزال قائما: اللقاء مع الشاه. أحاطت الدبابات والسيارات المدرعة بقصر سعد آباد في الضواحي الشمالية لطهران لصد الحشود الغاضبة. وأمكننا سماع هتافات هذه الحشود من داخل أسوار القصر. كان مضيفنا (الشاه) رجلا مكسورا. أخبرنا أنه أعلن الأحكام العرفية في اليوم الذي سبق لقاءنا لأنه كان في حاجة إلى ستة أشهر من “الانضباط والهدوء” حتى يتمكن من العمل مع البرلمان على الإصلاحات الديمقراطية الشاملة. لم يكن ذلك حكما سياسيا منطقيا، وبدا الشاه نفسه مشككا في حكمه.

عندما انتهت المقابلة التي استغرقت 90 دقيقة، طلب مني البقاء لدقائق إضافية. وعندما غادر الآخرون، طلب من أحد المساعدين إيقاف أدوات الاستماع المخبأة في مكتبات الغرفة. عندما بقينا لوحدنا، تخلى عن رباطة جأشه.

كان مقتنعا بأن وكالة المخابرات المركزية الأميركية تخطط للإطاحة به. حاولت أن أسأله عن الدافع الأميركي وراء ذلك. هل كان يعتقد أن إدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر تخلت عنه؟ هل كانت الولايات المتحدة تأمل في وجود عدد من الإيرانيين المعتدلين الأكثر فاعلية لمنع الخميني من قيادة ثيوقراطية راديكالية؟

لكن، رفض الشاه أن يقول أي شيء أكثر من أن الولايات المتحدة قد انقلبت عليه. عندما غادرت القصر عبر أسراب من المحتجين والشرطة، قفزت في سيارة أجرة واتجهت إلى السفارة الأميركية. كنت أعرف السفير وليام سوليفان وطلبت عقد اجتماع خاص عاجل معه. عندما أخذني إلى مكتبه، قلت إنني سمعت للتو معلومة مهمة من الشاه. قال سوليفان “دعني أخمن. لقد أخبرك أن وكالة السي.آي.أي تحاول الإطاحة به. إنه يقول ذلك لأي شخص مستعد لأن يستمع إليه. مرحبا بك في طهران“. شعرت بالخجل. لم أحصل على سبق صحافي، ولا معلومات حساسة لحكومة الولايات المتحدة. في المقال المصاحب للمقابلة مع الشاه، أدرجت جملة “هنا، نتحدث عن شرير آخر محتمل (غير الكرملين): وكالة المخابرات المركزية، التي تتهم بالتسلل عن عمد في صفوف المعارضة. أن وكلاءها سيكونون في الحكومة الجديدة إذا أطيح بالشاه“.

في 16 يناير 1979، ترك الشاه سلطته، ولم يعد أبدا. بالإضافة إلى مرضه الفتاك (اللوكيميا)، جعله مصيره ينتقل من بلد إلى آخر ومن مستشفى إلى مستشفى. قبلته إدارة كارتر على مضض من أجل العلاج، الأمر الذي ساهم في اقتحام السفارة الأميركية في طهران واحتجاز الموظفين كرهائن في الرابع من نوفمبر من ذلك العام. ونتيجة لذلك، اضطر الشاه الضعيف إلى المغادرة، إلى بنما ثم إلى مصر أين توفي في القاهرة في 27 يوليو 1980، عن سن يناهز 60 سنة. وسمح أنور السادات بتنظيم جنازة رسمية كاملة.

وبعد خمسة عشر شهرا، قتل السادات برصاص الجنود المنشقين. اندلعت مظاهرات فرح في طهران، وأعاد الآيات الله تسمية شارع تكريما للملازم خالد الإسلامبولي، المخطط لعملية الاغتيال المصرية. أعاقت الإطاحة بزعيم رئيسي واحد في الشرق الأوسط واستشهاد آخر السياسة الأميركية في المنطقة بطرق غيرت مجرى العلاقات الدولية، وهي اليوم تدخل منعرجا آخر تذكر بعض تفاصيله بما حدث قبل أربعة عقود.