ما بين ترامب وكيسنجر.. كيف يتم تشكيل النظام العالمي؟

عدن لنج_ترجمة - بسام عباس

لا يمكن التنبؤ بما سيقدم عليه "دونالد ترامب" كرئيس. ولكن عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، قد يكون هذا أكبر رصيد له في السياسة الخارجية. فبعد كل شيء، فإن قدرة أمريكا على التأرجح بين العزلة ورد الفعل العنيف تكمن في الحمض النووي الخاص بها بفضل الأساس الجيوبوليتيكي القوي المتأصل فيها، وربما يكون للروح الزئبقية في البيت الأبيض بعض الموجات الكبيرة، ولكن يمكن أيضًا – على الأقل في بعض الظروف – أن يتم استغلالها في إحدى الفرص. 

ومن المحتمل أن يكتشف استراتيجي كبير مثل الدكتور "هنري كيسنجر"، الذي كان معروفًا بإسداء النصح لترامب في بعض الأحيان، فرصة كهذه في رئاسة ترامب. وضع كيسنجر، الذي يبلغ من العمر الآن 95 عامًا، لكنه أكثر إشراقًا ووعيًا، نفسه رهن العديد من الرؤساء والمرشحين لمساعدتهم في تشكيل السياسة الخارجية والانخراط في دبلوماسية مكوكية هادئة. وتركز توجيهاته، التي يتم إلقاؤها عبر خطابات طويلة ورتيبة، على سعيه إلى تشكيل نظام عالمي جديد يستطيع التعامل مع التحديات المزمنة، إنه ذلك الرجل الذي قسم المحور الصيني السوفيتي أثناء الحرب الباردة، ما أدى إلى ظهور عبارة "نيكسون يذهب إلى الصين"، ويقضي كيسنجر معظم وقته مستغرقًا في قضية صعود الصين، وحاليًا يحاول الدبلوماسي المخضرم المساعدة في صياغة نظام جديد في بيئة سريعة التغيير، بدءًا بحل بأكبر المعضلات التي تواجهها الولايات المتحدة اليوم، ألا وهي كوريا الشمالية. 

في كتابه الأخير "النظام العالمي" (2014)، يتساءل الدبلوماسي المخضرم عن التاريخ ليشرح متى سيحدث، وفي ظل أي ظروف، والمحاولات السابقة لتعزيز النظام العالمي الناجحة وتلك التي فشلت. من وجهة نظر كيسنجر، كان القالب التأسيسي للنظام العالمي هو ميزان القوى الويستفالي، الذي ظهر نهاية حرب الثلاثين عامًا في 1648. وفي ظل هذا النموذج كان النظام مكونًا من قوى الأقران، لا يتمتع أحدها بالقوة الكافية للتغلب على الباقي، واحتضن مفهوم السيادة وشارك في الشعور بالشرعية للحفاظ على توازن نسبي ومرن في القارة، وإذا ما حاولت أي قوة تحقيق الهيمنة أو حاولت قوة من الدرجة الثانية أن تشق طريقها إلى صفوف القوى الكبرى عبر زعزعة الاستقرار، فإن قواعد النظام غير المعلنة ستحفز بشكل فعال التحالفات البراجماتية لمواجهة التهديد الناشئ. 

يعترف كيسنجر بالقوى القوية (وربما الحتمية) والتي تسببت في النهاية في تأزم النظام الغربي في القرن التاسع عشر، بما في ذلك صعود القومية، وتوحيد ألمانيا، وعزلة بريطانيا، وسطوة روسيا في القارة. في الوقت نفسه، أعرب عن أسفه العميق لمذبحة القرن العشرين التي نتجت عن سلسلة من الحسابات الخاطئة من قبل قادة الدولة الذين فشلوا في قراءة محيطهم الجغرافي السياسي بدقة. وكما تشير العديد من كتاباته وشهاداته، فإن كيسنجر ليس ذلك الرجل الذي يمكن أن يتقاعد. فمهمة هذا التسعيني الجريء  هي منع تكرار المأساة العالمية من خلال بناء توازن جديد للقوة. 

وبمعاينة عالم اليوم، فمن السهل تحديد الضغوط على النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب الباردة. تبقى الولايات المتحدة قوية بطبيعتها ولكنها لم تعد منقطعة النظير، فالصين تصعد بسرعة لتصبح منافسًا ندًا للولايات المتحدة، في حين أن روسيا الضعيفة والحذرة، التي تغريها إمكانية إضعاف النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، قد اصطفت استراتيجيًا (في الوقت الحالي) إلى جانب بكين. وبين شقي رحى هذين القطبين، تجد أوروبا نفسها منقسمة للغاية بحيث لم تعد تستطيع لعب دور الوسيط الفعال، في حين أن العمالقة الإقليميين، مثل اليابان وتركيا والهند، ما زالوا يحاولون العثور على موطئ قدم في الفضاء المتسارع بين هذه القوى العظمى. 

وبعبارة أخرى، فإن العالم في حالة عدم توازن متفاقمة. فلكلٍّ من الصين والولايات المتحدة، وهما دولتان على طرفي الأرض، مطالبتهما بالاستثنائية التاريخية، وتشكلان معًا مركز الجاذبية في النظام الدولي الحالي. بعد أن أصبحت الصين مركزًا لعالمها الخاص لقرون عديدة، تم توجيهها إلى النظام الذي يقوده الغرب، على الرغم من أنها لم تشارك في كتابة قواعد النظام. 

وفي الوقت المناسب، كما يحذر كيسنجر، فإن الصين تتوقع مراجعة قواعد النظام المعاصر لتناسب احتياجاتها بشكل أفضل. وبغض النظر عما إذا كان ترامب في البيت الأبيض أم أن "شي جين بينج" سيبقى رئيسًا مدى الحياة، فإن دافع الصين العالمي للأمن الاقتصادي على مسار تصادمي مع الضرورة الأمريكية للحفاظ على الهيمنة العالمية. وما لم تتمكن الولايات المتحدة من إيجاد طريقة للتعايش والتوازن أمام الصين الصاعدة، فإن هذا القرن ربما يشهد على مأساة جديدة – وربما أكثر حدة – في سياسة القوة العظمى. 

مصير شبه الجزيرة الكورية هو الأولوية الأولى في هذا النظام العالمي الناشئ. وليس من الغريب أن تقع كوريا، المحصورة بين عدة إمبراطوريات، فريسة قوى أكبر منها. وإذا قُدِّرَ لكوريا أن تحقق ما يشبه التوازن بين جيرانها الأقوياء، فعليها أن تجد طريقًا نحو التوحيد، حتى لو كان هذا الطريق مليئًا بالمزالق طوال السبعين عامًا الماضية. ولكن المحاولة الأولى لإعادة التوحيد انتهت بالتعادل بين القوى العظمى عندما استغل "كيم إيل سونج" جنون العظمة السوفيتي وحلفاءهم الصينيين في عام 1950، وحصلوا على تأييدهم لغزو الجنوب. ولكن في ظاهرة أخرى لعدم التنبؤ بما يقدم عليه الأمريكيون، تحولت الولايات المتحدة بسرعة من الازدواجية إلى الحسم في حسابات الحرب الباردة لدفع الكوريين الشماليين إلى نهر "يالو" على الحدود الصينية، مما وضع التوحيد تحت الوصاية الأمريكية وفي قبضة واشنطن. ولكن كما يوضح كيسنجر، فإن الضرورة نفسها التي دفعت الصينيين في عام 1593 لصد قوة غزو – كانت يابانية آنذاك– من حدود نهر يالو أرغمت "ماو تسي تونج" على الرد للغزو الأمريكي. ولم تكن الولايات المتحدة ترغب في أن تورط نفسها مع الصين في الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفيتي يمثل أولوية، فقد مارست ضبطًا استراتيجيًّا لتقليل قواتها في شبه الجزيرة واحترمت الخط العازل على خط التوازي الـ 38. 

هل ستنجح الصين والولايات المتحدة مرة أخرى في التوصل إلى تفاهم بشأن كوريا، لإدارة منافستهما حول القوى العظمى؟ فكلاهما لديه مصلحة في تحييد ترسانة كوريا الشمالية النووية. وكلاهما يعرفان من التاريخ لماذا يمكن للتدخل العسكري الأمريكي في كوريا أن يجتذب الصين بسهولة إلى حرب يحاول الطرفان تجنبها. وكلاهما في وضع جيد من خلال الوسائل الأمنية والاقتصادية والسياسية للتأثير على الطريق الكوري لإعادة التوحيد، في حين ستبقى شبه الجزيرة الكورية مسرحًا للتنافس بين الولايات المتحدة والصين على المدى الطويل، فإن لديها أيضًا القدرة على عكس توازن القوة الناشئ بين واشنطن وبكين في شمال شرق آسيا. 

ويتوافق وصول الرئيس الأمريكي غير التقليدي إلى كوريا الشمالية مع هذا النموذج الاستراتيجي. ويبدو أن تحركه لإلغاء قمة 12 يونيو مع الزعيم الكوري الشمالي "كيم جونج أون" قبل أيام فقط من الزمن أجبر بيونج يانج – على ما يبدو – على التخلي عن بطاقة عدم القدرة على التنبؤ بما سيفعله الرئيس الأمريكي (على الأقل في الوقت الراهن). والمعلقون الغاضبون بسبب الافتقار التام للتفاصيل المتعلقة بنزع السلاح النووي، وكذلك غياب أي نقاش حول حقوق الإنسان في البيان الختامي، يجب أن يضعوا في اعتبارهم أن النهج التقليدي الذي مضى عليه عشرات الأعوام لاحتواء دولة مارقة نووية مثل كوريا الشمالية قد فشل فشلا ذريعًا. وإذا كانت واشنطن قد شرعت في الحوار رفيع المستوى مع تقنيّات نزع السلاح النووي، ناهيك عن حقوق الإنسان، لوصلت المحادثات إلى طريق مسدود على الفور. وبدلاً من ذلك، أظهرت قمة سنغافورة إرادة سياسية لدى الجانبين للخروج من المأزق. وفي حين أن شبح الانهيار سيخيم بشكل طبيعي على مفاوضات مستقبلية حول مسألة نزع السلاح النووي بين زعيمين راديكاليين وسريعي الغضب، فإن الأساس الاستراتيجي الذي يؤكد الحوار لا يمكن إنكاره. وفي الواقع، هذا هو ما يعطي المفاوضات أرضية حقيقية. 

وربما يكون ترامب الرئيس الأكثر تطرفًا في تاريخ الولايات المتحدة الحديث. وستجعل تكتيكاته الراديكالية التقليديين يتهكمون، ولكن مع ذلك، تصبح عملية تشكيل التحالف السخي شرطًا أساسيًّا لسياسات توازن القوى، في حين تهدد أجندة الرئيس المتشددة الاقتصادية باستقطاب العديد من الحلفاء التي تحتاجهم في هذه المنافسة على القوة العظمى، غير أن هذا لا يعني أن كل خطوة يقوم بها الرئيس تفتقر تمامًا للاستراتيجية، وبمساعدة سياسي محنك في مجال السياسة الخارجية مثل كيسنجر، يمكن للتسوية الكورية أن تكون بمثابة إحدى المخططات العديدة في بناء نظام عالمي جديد.