اسرة الفقيد الميسري تستقبل واجب العزاء بعدن
استقبل محمد الميسري، رئيس قسم المشتريات بديوان وزارة العدل، اليوم واجب العزاء في وفاة والده نائب مدي...
مد (برايان) ساقه اليسرى فوق الكرسي دون ان يغادر بعينيه سيدة كانت تجادله بصوت متوتر. كان الاثنان يخوضان في حديث حول الإسلام والتشدد.
صاح برايان الذي أصيب ليلة 14 يوليو في حادثة الدهس التي نفذها الشاب التونسي (محمد بوهلال) بمحج الانجليز على شاطيء مدينة (نيس الفرنسية): "يا سيدتي أنا كاثوليكي ونحن أيضا يوجد فينا متشددون. منفذ الاعتداء رجل مخبول، وأنا أربأ بالاسلام والمسلمين أن يكون ممثلا عنهم".
صمتت السيدة العجوز التي كانت ترتدي لباسا أسود حدادا على الضحايا الأربعة والثمانين الذين سقطوا في الاعتداء.
كنا قد انتهينا للتو من حضور حفل تأبيني أقامته سلطات المدينة بحضور مانويل فالس، رئيس الحكومة الفرنسية والأكير ألبير، أمير موناكو المجاورة، وأوغو إيلوريس حارس مرمى منتخب فرنسا لكرة القدم وعدد من المشاهير إضافة إضافة لآلاف من المواطنين والسياح.
تحت شمس حارقة، وفي منتصف النهار تحديدا، وقف الجميع دقيقة صمت. كنت حينها منهمكا في اتصال هاتفي جاءني من مقر العمل. شعرت بنظرات غضب توجه إلي. ثم انبعث صوت من بين الحاضرين: "الرجاء التزم بدقيقة الصمت!".
ابتلعت ريقي وانا ابتعد طالبا من محدثي في الهاتف إعادة الاتصال بي لاحقا. شعرت بخجل في تلك اللحظة. رباه كيف سمحت لمن يوجد على الطرف الآخر من المكالمة أن يلهيني عن محيطي.
انطلقت الجموع منشدة (لا مارسييز)، النشيد الوطني الفرنسي. لقد أبدع الحاضرون في الأداء، ثم انطلقت التصفيقات. يا لها من لحظة تآلف ووحدة بين مكونات شعب واحد. لكن بعد أقل من دقيقة، انطلق الصفير وأصوات منددة. آه لقد انتهى التأبين وعاد الناس إلى واقعهم كما هو. لقد كان مانويل فالس يتأهب للمغادرة، وهنا بدأ الحاضرون يصفرون في وجهه وآخرون يصيحون: ديگاج، ارحل!!.
هذه الكلمة هي التي تكررت في تونس قبل خمسة أعوام ونصف في وجه زين العابدين بن علي ودهاقنة نظامه.
ما إن غادر فالس المكان حتى دنا مني شاب نحيف ذو لحية خفيفة، ثم قال بلهجة حادة:"أليس لديك احترام للموتى، أليس لديك إحساس بالآخر؟!!".
حاولت أن أهديء الأمر فقلت له إنني لم أتعمد الكلام خلال دقيقة الصمت. لكنه تمادى في نبرته فجرى الدم في رأسي، ثم قلت له: هل تهددني؟ انصرف وإلا سوف ترى مني ما تستحقه! لقد قلت لك انني لم اتعمد الحديث خلال دقيقة الصمت. لست اكثر انسانية مني".
انخفض صوته، وبدأ يبتعد، دون أن يكف عن إطلاق كلمات بدت لي نابية في محتواها.
قبل أربع وعشرين ساعة، وفي المكان ذاته، نشب شجار بين فرنسي أشقر، ومجموعة من مواطنيه من أعراق مختلفة.
كان ذلك الرجل يحمل ابنته على كتفيه وزوجته بجانبه. يبدو أنه طالب قبل انضمامي لسماع حديثه، بطرد العرب والمسلمين من فرنسا. لم يعجب ذلك الموقف الحاضرين، فانتفضوا ضده بشراسة. حتى ابنته الصغيرة وضعت يدها على فمه لكي لا يواصل قوله ذاك.
كان موقفا جميلا من الحاضرين الذين اتهموه بالعنصرية. تدخل رجل ستيني ليقول له:"انت عنصري، انت لا تمثلنا ولا تمثل قيم فرنسا. ارحل عنا!".
اضطر في الاخير للانصراف قائلا لزوجته:"هيا الحقي بي!".
نظر إليه كهل من بين الحاضرين، وقد تغير لون شعره من الأشقر الى الفضي:"ألا تسمعون؟ حتى زوجته لا يقول لها من فضلك الحقي بي، بل يأمرها باللحاق!".
تلكأت الزوجة قليلا، وصغطت على عجلة كهربائية متحركة كانت تقف عليها، ثم تبعته.
تسامح الفرنسيين هنا في نيس يبلغ حدا لم أكن أتصوره.
قي الصباح وبينما كنت أتناول وجبة الفطور في أحد المقاهي القريبة من محج الانجليز، جاءت سيدة سمرة بشرتها شديدة، فتقدم منها النادل مرحبا بشدة. جلست هي واطفالها بالقرب مني، ثم قالت لي كعادة الفرنسيين: بونجور.
سألتني إن كنت من السياح ة، فقلت لها انني صحفي. شرعت في الحديث عن ليلة الهجوم الذي صادف وجودها وسط الحشود، ثم فرارها عبر الدروب المحيطة، الى ان ساعدها الشرطة في العودة الى منزلها الذي يطل على الشارع المنكوب.
بين الفينة والاخرى كانت ابنتها المراهقة تتوقف عن التدخين لتضيف بعض التفاصيل.
اقترحت السيدة السمراء أن أصور لقاءا معها إن شئت، لتقدم شهادتها، بل عرضت علي أن أستخدم شرفة بيتها لتصوير حفل التأبين. وقبل أن تختم كلامها، قالت لي بالعامية العربية: "لدي شريط فيديو صوره أهلي، وقد علمت أن القنوات تدفع أربعين ألف يورو مقابل تلك الصور. هل انت مستعد لمشاهدته ثم شرائه؟".
لم يكن لدي وقت للمشاهدة ولا للشراء، فموعد دقيقة الصمت كان قد اقترب.
شكرا على الكرم العربي.
كتب\الإعلامي عبدالرحيم الفارسي .