حدث قبل عام ..حميميات مقدسية "5"

القدس (عدن لنج)خاص:

طلبت مني سيدة أن أتقدم لأفسح المجال لمن خلفي. نظرت إلى عينيها الآسيويتين الصغيرتين، وقلت لها ألا ترين الطابور الطويل المقابل لنا.


كان المكان مظلما ويعبق برائحة بخور زكية. بسرعة حاولت أن أمرر شريط كل المعلومات التي ارتسمت في ذهني عن هذا المكان. حاولت أن أتخيل جذع النخلة في مكان قريب. تخيلت شعور تلك السيدة التي توشك أن تضع مولودها هناك. ما الذي كان يدور بخلدها، وهي التي حملت دون أن يمسسها بشر.


تقدمت السيدة الآسيوية نحو فجوة في أرضية الجدار بعد أن لاحظت أنني لست من الساجدين عليها.


في جانب آخر من تلك المغارة، بكنيسة المهد في بيت لحم، بدأ فوج من اليونان التجمع لتلاوة تراتيل جماعية.


من هنا إذن مر السيد المسيح ذات زمن. كان وحيدا مع والدته العذراء، الآن يبلغ عدد أتباعه أكثر من مليار من النفوس.


من هذه الربوع بدأت الرسالات السماوية، وحول هذا المكان، والعقائد النابعة منه، تقاتل الناس.
تركت بيت لحم وكنيسة المهد للزائرين، قاصدا الخليل. هنا تعود عقارب الساعة قرونا عدة إلى الوراء. والطفل المسيح ما هو إلا ابن سيدة من نسل أتباع ذلك الرجل المؤمن الذي سار ذات يوم بين وديان هذه التلال الصخرية.


وقفت أمام مدخل معدني ضيق، فإذا بصوت مبهم يناديني:"من أي البلاد جئت؟". لم أجبه، لكنني سلمته جواز سفري. تأمله مرة ومرة ومرة. قلب أوراقه. تفحص اسمي العائلي والشخصي، ثم قال:"هل أنت مسلم؟".


فتش حقيبتي الصغيرة ثم سمح لي بالانصراف وقد أعاد وضع أصابعه حول زناد بندقيته.


لحقت بصديقي ماهر الذي سبقني. هذا الشاب الذي تحدث معي من قبل بصوت عميق من بين فجاج الخليل وقرية بني نعيم المجاورة لها.


لحظات قليلة مضت فإذا بي أقف بحرم سيدنا إبراهيم الخليل، الرجل الذي يفترض أنه جد غولدا مائير، وإسحق شامير، وبنيامين نتنياهو، مثلما هو جد ياسر عرفات ومحمود عباس والملك عبدالله عاهل المملكة العربية السعودية، وهو بالذات الذي سماني ومن سبقوني، مسلمين.


لفت ماهر نظري عند مدخل الحرم الإبراهيمي إلى قبر السيدة سارة عليها السلام. هذه السيدة تعتبر جدة اليهود، ثم انتقلنا إلى قبر يعقوب وإسحق وزوجته رِفقة، عليهم السلام جميعا.


التاريخ هنا اجتمع. سكون جميل وسكينة أجمل في هذا المكان. رفعت عيني نحو السقف فإذا بكاميرات المراقبة منبثة في كل الأركان، لتمكن شخصا ما في مكان ما، من رصد كل حركاتنا.
يهمس ماهر في أذني:"أنظر خلف ذلك الشباك؟".


أمتار قليلة تفصل بيننا وبين من هناك... أو بالأحرى من هنالك.


من خلف الشباك تظهر صبية شعرها أشقر، منهمكة في تلاوة التوراة... هناك يُعبَد رب إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط... وهنا في هذا الجانب، يُعبَد أيضا رب إسحق ويعقوب والأسباط. لكن قلوب أولئك، وصدور هؤلاء، ملأى بالكراهية المتبادلة.


تقدمت نحو المحراب، فإذا بي أمام منبر كبير يبدو قديما. في أعلاه علقت لوحة صغيرة كُتب عليها: منبر صلاح الدين الأيوبي!.


من هنا إذن مر ذلك القائد الكردي الذي يشعر أحفاده اليوم في كردستان العراق، بأنه لم يعد بإمكانهم العيش مع أشقاء أحفاد من جاء لنجدتهم هنا. 


آه كم تقاتل الناس عليك يا إبراهيم الخليل. لقد أقيمت على مرقدك كنيسة، ثم استبدلت بمسجد، فجاء من أعاد أصوات النواقيس إليها، ثم صال الأيوبي صولته فأعيد رفع الآذان فيه. والآن ها هو ذا جندي ولد أبواه في إثيوبيا، وجيء بهما على متن طائرات أواسط ثمانينيات القرن العشرين، يتبختر في ربوع حرمك، ثم يسأل ماهر، الذي عاش أجداده هنا منذ عهد الرومان:"ما هي ديانتك؟".
في عام 1981 طُلب منا خلال احتفالات عيد جلوس الملك الراحل الحسن الثاني على العرش، أن نساهم بأغنية ما في هذه المناسبة. استقر رأي معلمنا السي عبدالله، على أن نقدم أغنية يقول مطلعها:"لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي". عرفت أنها لمغنية اسمها فيروز، من بلد اسمه لبنان. وفي متن الأغنية سمعت كلمة "القدس" تتكرر. لم أكن أعرف معنى هذا الاسم الرنان. لكن اللحن والإيقاع استهوياني فانسجمت مع فرقة الكورال التي ظلت تردد مقطوعات خلف الفتاة التي أدت الأغنية.


لم يكن عقلي الصغير مدركا للصراع الدائر على هذه المنطقة من العالم، ولا كنت أميز نساء مدينتنا المسلمات عن (طاطا نونة)، اليهودية التي تجلس عصر كل يوم في مدخل بيتها القديم، وتخيط الملابس بآلة خياطة تديرها بيديها المنتفختين.


لم أكن أعرف أن لنا أشقاء عربا يشتركون مع (السبنيول والفرنسيس) في نفس الديانة.


كانت آثار الحرب مع المحتليْن الفرنسي والاسباني ما تزال بارزة على أرجل الكثير من رجال المقاومة وقدامى المحاربين المغاربة الذين فقدوا سيقانهم في حقول ألغام حرب التحرير، وعوضوها بسيقان من حديد أو بلاستيك. كانت تلك علامات على عنف حدث بين المعسكرين.


وكان الخوف من عودة "الروم المستعمرين" يثير الاشمئزاز في نفوسنا الغضة.


اليوم وقفت أمام المغارة التي صدحت فيروز باسمها قائلة:
"الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان

يبكيان لأجل من تشردوا

لأجل أطفال بلا منازل

لأجل من دافع واستشهد في المداخل

و أستشهد السلام في وطن السلام".

 

لا شيء هناك يدعو لاستشهاد السلام، لا شيء عند من فاتوا يدعو للقتل أو الضغينة.


اليوم وقفت بين مراقد إبراهيم الخليل، وزوجته وابنيه إسحق ويعقوب. لا شيء في المكان يدعو إلى القتل أو الضغينة.


أمس دخلت في الحرم القدسي إلى الصخرة التي صلى عليها النبي العربي الأمي، حفيد إبراهيم الخليل. كان السكون والسكينة يعمان المكان. لا شيء هناك يحرض على القتل والضغينة.
لكن في تأويل تفاصيل ما جاء به النبي محمد، والمسيح، وموسى، عليهم السلام جميعا... يلعب الشيطان لعبته بين الأتباع...

كتب\الإعلامي عبدالرحيم الفارسي