الضفة الأخرى تصل أصداء موسيقى صعيدية وصوت مغن تتلاعب به ريح الصحراء الليلية. تخفت إيقاعات الدفوف حينا ثم ترتفع، متناغمة مع خرير مياه النيل وصرير الحشرات. لا أتحمل حرارة الجو فأغادر شرفة الغرفة مستغيثا بهواء الغرفة المكيف.
الأجواء في الفندق كئيبة ورؤوس الموظفين تشرئب لرؤية أي شخص يدلف بوابة الفندق. "أقل من عشرين زبونا يوجدون الليلة في هذا الفندق الذي يضم أكثر من مائتين وخمسين غرفة"، يقول محمد الذي ترك النمسا بعدما عاش فيها ردحا من الزمن، وعاد للأقصر مستثمرا في السياحة ويعيش أعزب.
يحرك رأسه ثم يتأملني إلى أن تضيق عيناه، فيفرج عما يعتمل في صدره، "والله العظيم لقد ضقت درعا بهذا الوضع وبت أفكر جديا في العودة إلى أوروبا. لم يعد في مصر ما يبشر بالخير". قالها وهو يعدد الخسائر التي تكبدها القطاع السياحي في الأقصر خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. كانت نسبة الحجز في الفنادق إبان هذه الفترة من العام تتجاوز خمسة وسبعين في المائة -يوضح محمد- لكنها الآن تتراوح ما بين اثنين وعشرة في المائة. يمر النادل قريبا منا لجمع فناحين القهوة التي انتهينا للتو من ارتشافها.
كنا الزبائن الوحيدين الذي طلبوا مشروبا من مقهى الفندق خلال الساعات الأخيرة.
ونحن إذ نغادر الفندق يلحق بنا عنصر من البوليس السري ليعرف في أي اتجاه تمضي سيارتنا فيبلغ رؤساءه بذلك عبر الهاتف. في زاوية أحد الشوارع تقف عربتان مدرعتان اعتلى سطحيهما أفراد من الجيش منغمسون في الحديث مع بعضهم البعض دون أن تغادر سباباتهم زنانيد البنادق الآلية التي بحوزتهم.
يبتسم في وجهي ضابط شرطة كبير مناديا علي بالمجيء. بجانبه يقف نحو عشرة من أفراد الأمن حاملين بنادق الكلاشنيكوف، في هيئة توحي بأنهم سيشرعون في إطلاق النار نحو معبد الأقصر الفرعوني والمسلة المطلة منه.
يبتسم الضابط الكبير مرة ثانية بعد أن علم أن تحركاتي في المدينة معروفة، وأن ثمة من يتولى أمري والفريق المرافق لي.
تعيش غالبية سكان الأقصر على عائدات السياحة. والسلطات المحلية تقف عاجزة أمام العزوف الشديد للسياح الأوروبيين الذين كانت جحافلهم تغزوا شوارع المدينة ومواقعها الأثرية.
"والله العظيم كنا نتمنى أن نجد ساعة واحدة للنوم في الفجر من كثرة العمل. الآن مضت علي أربعة أيام وأنا أنتظر وصول دوري لأحملكم"، يقول أحمد سائق التاكسي، وهو يعدل عنق جلابيته الصعيدية المتسخة.
انطلق أحمد في شتم حكم الرئيس محمد مرسي ولعن الإخوان المسلمين. وفجأة نظر عبر نافذة السيارة وقال لي عن سائق دراجة نارية "أكيد إنه ترك مخه في إجازة، وإلا لما جاء ليضايقني بهذه الطريقة".
لعنه بشكل خافت ثم انطلق في الحديث بهستيرية عن مقتل خمسة وعشرين مجندا في رفح المصرية قبل ثلاثة أيام. أقسم بالله أنه لو كان ابنه بين القتلى لحمل هو السلاح وشرع في تصفية أي فرد من جماعة الإخوان المسلمين، حتى ولو كان أخاه الشقيق.
"الأنباء من قبيل عملية رفح تعتبر من بين الأمور التي تنفر السياح من مصر عموما، والأقصر بالدرجة الأولى"، تقول سيدة ألمانية وهي تتناول كرة من (الآيس كريم) قدمها إليها إرنست، الألماني الذي فتح محلا للمثلجات في أحد الأحياء السكنية بالأقصر. يتحدث إرنست بفخر عن منتوجه "الفريد"،الذي يستخدم فيه حليب الجاموس وفواكه وأعشابا يشتريها من دكاكين جيرانه.
يشعر إرنست بفرحة خاصة حينما يناديه الجيران باسم إبراهيم. وضع في ساعده الأيمن وشما كتب عليه عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم"، بخط بديع.
ظل ينتظر لمدة عامين الحصول على رخصة فتح محل للمثلجات، وحين حصل عليها جاءت الاضطرابات الأخيرة فأفسدت عليه تجارته. يقول "إبراهيم" إنه لن يستسلم للكساد التجاري ويعود إلى ألمانيا. يبدو أن "دماغه صار ناشف (أي عنيد) مثل الصعايدة"، تقول مواطنته التي تعيش في الأقصر منذ ثمانية أعوام، تعلمت خلالها الحديث بالعامية المصرية بطلاقة.
العناد نفسه تلمسه لدى المسؤولين المحليين والتجارالذين لا يريدون الإقرار بالهزيمة أمام الركود التام لهذا القطاع. يحلف لي عادل تاجر الأقمشة في السوق القديم، بأنه لم يدفع ثمن الايجار لمالك المحل منذ عامين. يضع يده على كتف جاره المسيحي الذي يحمل أيضا اسم عادل، ثم يقول:"أنا المسلم، وجاري المسيحي، نعيش هنا منذ ثلاثين عاما على عائدات السياحة، لكن لا الأزمة الاقتصادية ولا الهجمات التي استهدفت مرافق حكومية وفندقية وممتلكات إخوة أقباط لنا، ستفرق اللحمة التي تضم أبناء المجتمع الصعيدي".
يبتسم عادل المسيحي ويتشجع فيقول" نحن نعيش هنا منذ الأزل، منذ زمن أجدادنا الفراعنة. منا من هو اعتنق المسيحية، ومنا من أسلم. أنا شخصيا أدخل المساجد لحضور عقد قران أبناء جيراني المسلمين. وأنا كنت أقيم موائد الرحمن في رمضان أمام هذا الدكان". ترتفع أصوات شباب تحلقوا حولنا مؤكدة ما يقوله جارهم المسيحي.
يومئ لي عاصم، المصور المرافق لي، بأن نرحل بعد أن أدرك أنه بين الحاضرين عناصر من البوليس السري.
أقف أمام معبد الأقصر الأثري. صدى زقزقة بعض الطيور يتسلل من بين أعمدته العملاقة.
كان هذا المعبد لوحده يدر خمسمائة ألف جنيه مصري يوميا من تذاكر السياح الذين كانوا يزورونه، يقول بدوي علي، المسؤول الإعلامي في المحافظة. لم يعد حاليا يزور المعبد ولو سائح واحد.
تحت ظل واحد من أعمدة المعبد استسلم شيخ صعيدي للنوم. ربما أحد أسلافه كان ساجدا في ذلك المكان قبل ثلاثة آلاف عام.
تقف الأعمدة ومسلة المعبد معاندة مكابرة أمام عوادي الزمن. كل شيء يبدو هنا عنيدا في صمت.
قبل هبوط الطائرة في مطار الأقصر، كنت أشاهد من النافذة خطوط التماس بين نهر النيل والصحراء المترامية الأطراف، مرة أراها تتسع، وفي أخرى تضيق. تارة تصل الرمال إلى ضفة النهر، وتارة تجد خضرة الحقول تغزو الصحراء لكيلومترات، في صراع بين الطرفين يبدو أنه مستمر منذ الأزل.
تنطلق زغرودة من البر الغربي للنهر، ثم تصمت الموسيقى الصعيدية التي كانت تتسلل عبر ليل الأقصر الخالي من السياح الأوروبيين.
أنظر إلى ساري المركب المقابل لغرفتي يتراقص بلطف وكأنه شبح ينبعث من حكايات جدران معابد الفراعنة.
أغلق الستار وأنا أحاول أن أعاند النوم الذي يثقل جفني.
مصر على صفيح ساخن
كتب\الإعلامي عبدالرحيم الفارسي .