حدث قبل 3 أعوام..حميميات سورية - إدلب مجددا

سورية (عدن لنج) خاص:
انتهى قائد المروحية ورفاقه من مهمتهم ثم انطلقوا صوب الغرب الصوت المنبعث من جهاز اللاسلكي يصيح :"الكلب متجه غربا باتجاه جبال العلويين... الله أكبر عليكم".
 
على مدخل المنزل كتبت بخط جميل عبارة "حج مبرور".
 
دأب أهل الشام على الاحتفاء بأقاربهم الذين يؤدون فريضة الحج، برسم صور للكعبة المشرفة وتزيين مداخل البيت وجدرانه الخارجية بما يوحي بأن أحد أفراد أصحاب البيت أدى الركن الخامس في الإسلام.
 
كان الباب الخارجي مكسورا. دخلت مترددا ومتمنيا ألا يكون في زيارتي إزعاج للأهل.
 
اقترب مني رجل أسمر علا وجهه وشعره الغبار. رحب بي وحثني على الدخول. لكن امرأة محمرة العينين من أثر الانتحاب، دنت مسرعة وخلفها عدد من النسوة، ثم بادرتني بالحديث متوسلة :"أرجوكم لا تصورونا، لا نريد أن نظهر في التلفزيون".
 
 
قاطعتها بحسم "سيدتي لن نصوركم، نحن فقط نريد لقطات لبقايا المنازل الأربعة".
 
استدرت بعيني أثناء هذا الجدل الذي تعودت على مثل بحكم المهنة والخبرة، فإذا بعيني تقع على صفيحة معدنية سميكة، شكلها يشي بأنها تعرضت لصدمة قوية.
 
آه أنت هي التي تحملين الموت في بطنك!. كانت قطعة كبيرة من الإطار الخارجي لأسطوانة البرميل المتفجر الذي أسقط هنا... فحصد أربعة منازل دفعة واحدة ومعها أكثر من عشرة أشخاص بينهم أطفال.
 
لكن قبل أن تتحول تلك الأسطوانة إلى عزرائيل قابض الأرواح، دفعها من المروحية واحد ممن كانوا على متنها، ثم تحولوا في تحليقهم قِــبَـل الغرب، مستكملين جولة وزعوا الموت والدمار خلالها.
 
 
لم تهدأ السيدة إلا حين نهرها الكهل الأسمر. سارت مبتعدة عنا وهي تتوسل :"مازال لدينا أهل في الشام موظفون لدى الحكومة. إن ظهرنا في التلفزيون سوف ينتقمون منهم هناك".
 
بين الركام دمى وأحذية لأرجل صغيرة، وملابس داخلية، وبقايا أواني فخارية.
 
 
رغم الفاجعة التي حلت بسكان المنازل الأربعة، اهتم بي صديقنا الكهل وشرع يحدثني بكلمات مغاربية بعد أن عرفني من لهجتي.
 
"لقد عشت في الرباط أيام الشباب، كانت فترة جميلة. قضيت هناك سبعة أشهر وأربعة أيام"، قالها وكأنه يريد أن يتهرب من إدراك أن ثمرة كده هو وأربعة من أقاربه تطاير غبارا وشظايا في لحظة واحدة.
 
 
التفجير كشف عن كهف عميق كان مخبأ تحت المباني. "إنه بئر قديم جدا. ربما يعود تاريخه إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام".
 
إذن لم تكن المسيحية ولا الاسلام قد نزلا الى اهل الارض. لكن القتل والحرب كانا آنذاك. وما زالا، بصيغة أشد فتكا. بعض المشاركين فيها يخوضونها طوعا، وآخرون كرها.
 
تقدمت سيدة مسنة نحوي حاملة قنينة ماء مجمد. شكرتها، لكنها ألحت.
 
امتطت السيارة معنا.
 
نظرت إليها مليا فإذا هي هي. ابتسمت لها، ثم قلت مداعبا "أين هو الرشاش الآلي يا حاجة آمنة؟؟".
 
لم يسبق لي أن التقيت بها شخصيا. لكنها دأبت على طبخ الطعام لي ولزملائي منذ عدة شهور.
 
 
شاهدتها أول مرة على شريط بثته إحدى القنوات الأمريكية. كانت غاضبة وقد تلفعت ببندقية رشاشة ثقيلة. كان الشرر يتطاير من عينيها وهي تصيح "سوف ننتقم! دماء هؤلاء الشهداء لن تذهب سدى".
 
كانت تتحدث بعد لحظات من غارة نفذتها طائرة حربية سورية على هذه القرية الصغيرة في جبل الزاوية، بريف إدلب. يظهر الشريط أطفالا مدفونين تحت الحجارة وآخرين غطت الدماء وجوههم.
 
نظرت إلي الحاجة آمنة بابتسامة الأم الرؤوم وقالت :"لا داعي للرشاش، المهمة يقوم بها الشباب، الله يحفظهم، في جبهة أريحا".
 
للحاجة آمنة تاريخ طويل مع المعاناة. في الثمانينيات اعتقل زوجها الذي كان منتميا لتنظيم الإخوان. قضى في السجن سبعة عشر عاما.
قبل سنين اعتقل ابنها لمدة خمس سنوات.
 
كانت تطبخ سرا للاخوان الفارين من قبضة المخابرات السورية في الثمانينيات. ربت اولادها اعتمادا على عرق جبينها حتى كبروا وتزوجوا، بينما كان ابوهم قابعا في احدى زنازن سجن تدمر الرهيب.
 
بعد اندلاع الاعمال المسلحة في سوريا قبل عامين، تصدت الحاجة مجددا للنظام، فكانت تعالج الجرحى وتخفيهم عن اعين الجيش الحكومي وعيونه المنتشربن في كل مكان.
 
اقتربت السيارة بنا من مدينة سراقب. صوت ينبعث من جهاز اللاسلكي "يا شباب يا شباب، طائرة حربية تحلق غرب سراقب".
 
يتدخل عامر قائلا لنا "نحن في غرب سراقب". أسحب الصدرية وأضع الخوذة على رأسي.
 
يصيح المتحدث في اللاسلكي "لقد ضربت في منطقة العمليات...في أريحا".
 
نلتفت ذات الشمال، فإذا بعمود دخان أسود يشق طريقه في السماء من خلف أحد الجبال القريبة.
 
"تلك هي أريحا يا شباب"، يقول عامر.
 
"الله يحفظكم يا اولادي يا ابطال يا مرابطين على الجبهة"، تقول الحاجة آمنة.
 
في المساء يبلغني أحد الزملاء بأن أريحا سقطت بيد الجيش النظامي ... الذي فقدها قبل أسبوع.
الحرب السورية ما زالت مستمرة
 
كتب\الإعلامي عبدالرحيم الفارسي