من أديس إلى ... أبابا

لندن (عدن لنج)خاص:

كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف مساء حين تسمرت عيوننا في شاشة جهاز التلفزة الذي يقدم لنا صورة مشوشة بالأبيض والأسود. تختفي صورة المذيع المغربي مصطفى العلوي ليحل مكانها تقرير تعلو فيه أصوات مغربية تحتج. لففت جسمي النحيف بغطاء لعله يقيني لسعات برد نوفمبر.

 

تراجعت أصوات المحتجين وظهر رضى اگديرة، مستشار الملك الحسن الثاني، متحدثا بفرنسية رصينة وهادئة. لقد أعلن حينها باسم الملك، في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، عن مغادرة المغرب لمنظمة الوحدة الأفريقية احتجاجا على قبولها بالعضوية الكاملة المكتملة لجبهة البوليساريو. سني لم يسمح لي بأن أستوعب كثيرا أبعاد ذلك الإجراء، لكن والدي الذي كان جالسا القرفصاء ظل يهز رأسه أسفا على هذه الهزيمة الدبلوماسية.

 

مرت السنون ووقع بين يدي ذات يوم كتاب فيه رسالة الحسن الثاني التي تلاها أگديرة في حضرة الزعماء الأفارقة. لقد كانت لحظة فارقة في علاقة الرباط بهذه المنظمة القارية التي درسونا في المناهج التعليمية أن الملك المرحوم محمدا الخامس كان من بين آبائها المؤسسين في قمتها الأولى بالدار البيضاء.

 

جاء في كلمة رئيس الوفد المغربي في خطبة الوداع بأديس أبابا:"ها قد حانت ساعة الفراق، ووجد المغرب نفسه مضطرا لئلا يكون شريكا في قرارات لا تعدو أن تكون حلقة في مسلسل متدحرج لتقويض أركان الشرعية التي هي العنصر الحيوي لكل منظمة دولية تحترم نفسها. والواقع أن منظمة الوحدة الإفريقية، قد ارتكبت انتهاكا صارخا للفصل الرابع من ميثاقها، خطأ يعد سابقة خطيرة، وستبقى عواقبه لأمد بعيد لا يمكن التنبؤ بمداه".
 
 
انتهى رضى اگديرة من تلاوة الرسالة، وخيمت مشاعر الانتشاء على محمد عبدالعزيز، زعيم جبهة البوليساريو، ومندوب الجزائر، وطيف ممن يدورون في فلك العقيد الليبي معمر القذافي.
 
وتحت سقف نفس القاعة خيم الوجوم على أصدقاء المغرب، وفي مقدمتهم الرئيس السنغالي عبدو ضيوف الذي قال إن المنظمة الإفريقية تفقد معناها برحيل المغرب عنها.
غادر أگديرة والوفد المرافق له أديس أبابا التي لم يكن نظام رئيس الطغمة العسكرية الشيوعية الحاكمة آنذاك، منغيستو هيلي مريم، يُكِنُّ لهم فيها أي ود، باعتبار أن نظام الحسن الثاني في رأيه كان ضمن المعسكر الرأسمالي.
 
 
حاول المغاربة محو هذه المنظمة من قاموسهم وذاكرتهم. وكذلك كان، أو تقريبا.
 
في عام 1999 كنت مكلفا في فترة المساء بمتابعة الأخبار في مقر وكالة الأنباء المغربية الرسمية، حين انطلق صليل جهاز تلكس مخصص لوكالة الأنباء الليبية (جانا).
 
كان ذلك يوم 9 سبتمبر وقد صادف أنه يوم خميس. تصفحت الورقة فإذا بها تحمل إعلانا في مدينة سرت الليبية يبشر بميلاد (الاتحاد الإفريقي). قلت مازحا لأحد الزملاء ان هذه شطحة تضاف لشطحات "الأخ العقيد". أعدنا صياغة البيان ونشرنا الخبر بعد استشارة الإدارة، لكننا في قرارة أنفسنا لم نأخذ الأمر بالجدية المطلوبة، فاتحادات الزعيم الليبي كانت كثيرة ويصعب حصرها، من بينها اتحاد مع جزيرة مالطا (أي نعم مع جزيرة مالطا)، وآخر عربي- إفريقي مع المغرب لم يستمر إلا بضعة أشهر، وثالث مع الجزائر وتونس وغيرها كثير.
 
كنت قبل ذلك ببضعة شهور قد حضرت خطبة طويلة عصماء ألقاها علينا الزعيم الليبي في "خيمته" الخشبية بثكنة العزيزية في طرابلس، حدثنا أثناءها عن منافع الأخوة الإفريقية ومساوئ القومية العربية معرجا على عروبة الأمازيع باعتبار أنهم بربر، أي "عرب بر بر"، ذلك أنهم يعيشون في البر والبر. (في الحقيقة لم أفهم إلى الآن تخريجته هذه)، ثم انتهى بالتعبير عن حلمه عن حلمه بإعلان ولايات متحدة إفريقية لمقارعة الولايات المتحدة الأمريكية.
 
ظهر الاتحاد الإفريقي بعد ذلك رسميا في عام 2002 في قمة عقدت بجنوب إفريقيا، حيث اندثرت منظمة الوحدة الافريقية وحل هذا التنظيم مكانها. وطبعا غاب المغرب عنه لأن الاتحاد يعترف بعضوية البوليساريو.
 
 
جرفتنا الأحداث التي طرأت بعد هجمات 11 سبتمبر وانصبت اهتماماتي على حروب أفغانستان والعراق ودارفور وجنوب السودان قبل انفصاله عن الشمال. ثم دارت الأيام دورتها لأجدني في أغسطس من عام 2011 داخل "الخيمة" الخشبية في باب العزيزية، لكن بعد أن كان القذافي هرب منها نحو مدينة بني وليد، ثم منها إلى سرت.
 
آه سرت!!!. هناك في مركز واغادوغو الذي شهد توقيع وثيقة ميلاد الاتحاد الافريقي حدثت معارك شرسة بين كتائب العقيد وسرايا المعارضة المسلحة بكل تلاوينها. ثم سقط العقيد مضرجا بدمائه، تاركا حلمه بحكم إفريقيا، ومكتفيا بالتوسل للشباب الذين أسروه قائلا لهم "خيرا يا شباب. لا تنسوا أنني أنا أبوكم".
 
لقد مات هذا "الأب" الذي كان له دور كبير في إعادة صياغة دور وشكل (منظمة الوحدة) لتصبح اتحادا، لكن الصراع الذي كان هو أحد رعاته الأساسيين في أواسط سبعينيات القرن الماضي، بين المغرب والبوليساريو لم يمت. وهذا ما سنرى فصوله تتجدد خلال الأيام القليلة المقبلة في أديس أبابا، حيث يطرق الأبواب هذه المرة حاكم للمغرب اسمه محمد السادس ابن الحسن الثاني، وسيحمل خطابا يعلن فيه عن العودة رسميا إلى المنظمة الإفريقية، منهيا القطيعة المؤسسية التي أعلنها رضى أگديرة في ذلك اليوم الشتوي البارد من نوفمبر عام 1984.
 
علينا أن نتوقع مباريات دبلوماسية ملأى بالدسائس والضربات "الأخوية" بين المغرب وأنصار البوليساريو ... على الحلبة الإفريقية.
 
كتب\الإعلامي عبدالرحيم الفارسي