غلبت على التعليم وأنظمته في معظم ربوع الجزيرة العربية إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري الطريقة القديمة المتمثلة في الكتاتيب وحلقات المساجد، يتلقى فيها الطلاب مبادئ القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن الكريم وبعض المعارف الإسلامية فحسب، ولم يكن التعليم النظامي الحديث معروفًا إلا في نطاق ضيق جدًّا لا يكاد يُذكر.
ومن البذور الأولى لهذا النوع من التعليم تأسيس مدارس الفلاح التي أنشأها التاجر الشيخ محمد علي زينل بمدينة جدة بالحجاز سنة 1322هـ (1905م)، ثم نقل هذه التجربة إلى جنوب الجزيرة العربية زعيمٌ مصلحٌ اسمه محمد الحسين بن عبدالله الدَّبّاغ الإدريسي، الذي قَدِم من مخلاف عسير إلى اليمن في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، فأسس عدة مدارس نظامية حديثة في المكلا ثم في عدن ثم في يافع سماها مدارس الفَلَاح، ورتَّب لها المدرسين، وجلب لها المناهج التعليمية الحديثة، ونظّم فيها الفرق الكشفية والفنية والرياضية على غرار المدارس الأوربية.
وقد قدم مع السيد الدباغ شاب ذكي اسمه: حمزة بن عمر بن علي، ينتسب إلى أحد البيوتات المرموقة في (جازان)، وكان مساعده وأمين سره ورفيق دربه.. وكانت لهذا الشاب أدوار تاريخية في عدة مجالات تركت في تاريخنا المعاصر بصمات لا تمحى.. وعُرِف طوال حياته بلقب (الأستاذ).
ولد الأستاذ حمزة عمر علي في بلدة (جازان) في المخلاف السليماني (تقع حاليًّا جنوب المملكة العربية السعودية) سنة 1337هـ (1918م)، وتلقى تعليمه الأوّلي هناك، وقدم إلى اليمن وهو في مقتبل شبابه، واستفاد من مرافقته للسيد الدباغ خبرات قيادية وعلمية، وأسس مع أستاذه الدباغ مدرسة الفلاح بالمكلا، ودرّس فيها، ثم قدم إلى عدن مع أستاذه قبل سنة 1357هـ (1938م)، وأسسا فيها مدرسة بالاسم نفسه، ودرّسا فيها، وانضم إليهما عدد من الطلاب، وكان التعليم حينها مقصورًا في عدن على الأجانب وبعض العائلات الميسورة، وهدف الدباغ إلى نشر التعليم في أوساط الفقراء وأبناء المحميات، فخرج مع عدد من طلابه إلى الضالع ثم انتقل شرقًا إلى يافع سنة 1357هـ (1938م)، وأسس عدة مدارس فيها، واستقر في بلدة (مَنْفَرة) بمكتب المفلحي.. وكان صاحب الترجمة رفيقًا له هناك، واستطاع الدباغ أن يؤسس في يافع حركة سياسية مناوئة للإنجليز وللإمام يحيى حميد الدين، انتهت بمعركة مسلحة مع الإمام في وادي (حَمْرة) شمال يافع سنة 1360هـ (1941م) هزم فيها الدباغ وأتباعه، وانسحب هو وبعض المقربين منه إلى بلاد القُطَيبي في ردفان، وشارك الأستاذ حمزة عمر هناك مع أستاذه الدباغ في معارك كبيرة ضد الإنجليز في مناطق (الحمراء) و(الثمير) و(السليك)، وانتصروا فيها على قوات الاحتلال البريطاني، مما أدى إلى ضرب قرى أهل القُطيبي بسلاح الطيران البريطاني. وتتابعت بعدها أحداث كثيرة انتهت باعتقال السيد الدبّاغ حينما كان في زيارة سريّة إلى بقية أهله في حضرموت سنة 1361هـ (1942م)، وقام الإنجليز بتسليمه للسلطة السعودية، وتوفي في بلدته جازان سنة 1362هـ (1943م).
وقد قام الأستاذ حمزة عمر المفلحي برعاية أسرة أستاذه الدباغ بعد اعتقاله، وإنزالهم إلى عدن، والتنسيق مع السلطة البريطانية هناك للسماح لهم بالعودة إلى بلادهم، فرُحِّلوا إلى الحجاز في أواخر سنة 1362هـ (1943م).
وقد كُلِّف حينئذٍ من قِبَل السلطات في عدن بإدارة بلاد بني مُسَلَّم شرق بلاد الشَّعيب بين عامي (1944 – 1948م)، وتزوّج هناك من امرأة هي أخت زوجة شيخ بني مُسلَّم. وكانت بلاد بني مسلّم قد ضمها الإنجليز إلى مشيخة المفلحي، التي كان يرأسها الشيخ قاسم بن عبدالرحمن بن قاسم المفلحي.
ثم انتقل سنة 1948م إلى بلدة خَلّة بالمفلحي الأسفل (تتبع مديرية الحُصين بمحافظة الضالع حاليًّا)، واستقر فيها واشترى هناك أراضي زراعية كثيرة، وكوّن ثروة حيوانية (وزعها فيما بعد على الأهالي عند سفره إلى جدة)، وصار يُعرَف باسم (حمزة عمر المفلحي) لاستقراره في بلاد المفلحي. وكان ثريًّا سخيًّا داعمًا للفقراء ولطلبة العلم الوافدين للدراسة في مدرسة خَلّة النظامية التي أُسست في مطلع الخمسينيات بدعم من حكومة عدن حينها، وكان بيته مقصدًا للمسافرين من يافع وبني مسلّم ولطلاب مدرسة خلّة الوافدين من القرى البعيدة. وكانت له إسهامات عديدة في الكتابة الصحفية، حيث نشر مقالات ومقابلات صحفية في عدد من الصحف العدنية حينها.
سافر سنة 1372هـ (1952م) إلى جدة، وتولى هناك إدارة المدرسة الشاهرية (مدرسة النَّزْلة لاحقًا)، مع بداية عهد المدارس النظامية الحديثة في المملكة العربية السعودية، وعمل مدرسًا خاصًّا للحرس الملكي في القصر الملكي بمدينة جدة.
وكان مثقفًا واسع المدارك، وإداريًا فذًا ومربيًا ومعلمًا بارعًا في التعليم، جعل من مدرسته واحدة من أفضل وأنشط المدارس السعودية حينها، وترك في نفوس طلابه آثارًا لا تمحى ما زالوا يتذكرونها ويكتبون عنها إلى الآن. وكان مهتمًا بالأنشطة التربوية المصاحبة كالمخيمات الصيفية، والفرق الكشفية، والأنشطة الإبداعية.
يقول عنه تلميذه عباس الفضلي أحد رواد منتدى النزلة في تعليق منشور في شبكة الانترنت بتاريخ 12/4/2012م: "إن الأستاذ حمزة عمر المفلحي هو أول مدير للمدرسة الشاهرية عند تأسيسها في العام 1372هـ الموافق 1952م، وأتذكر الأستاذ حمزة رحمه الله، وشاهدت ابنه محمدًا في منزلهم، وعلى ما أتذكر كان رحمه الله يقيم ما يشبه النادي الصيفي أو مجموعات مجانية لمن يريد الدراسة في العطلة الصيفية في منزله. وأكاد أجزم أن أرشيف أي طالب من طلاب المدرسة الشاهرية القدامى لا يخلو من صور أستاذنا حمزة".
ويقول مرعي عسيري، وهو أيضًا من تلاميذ الأستاذ حمزة وأحد رواد منتدى النزلة في تعليق نشره في الانترنت بتاريخ 11/4/2012م: "بالنسبة لأستاذنا القدير حمزة عمر المفلحي رحمه الله فقد كان رجلا ذا شخصية مميزة في كل شيء، فقد حباه الله علمًا ووسامة وقبولا عند كل من يعرفه، أو عمل تحت إدارته، كان قدوة للجميع، وكان يلبس من أغلى الثياب في ذلك الوقت، لا يلبسها إلا الملوك والأمراء والوجهاء. أما براعته في التعليم فهو لم يكن مدرسًا أو مدير مدرسة فقط، بل كان رائدًا من رواد التعليم في حينه، وكل النجاحات التي حصلت عليها المدرسة، وتفوقها أيام إدارته أو فيما بعد كانت بحسن إدارته وسعة أفقه وثقافته التي تعدت عصره رحمه الله".
ويقول المؤرخ الأستاذ صلاح البكري عنه في مؤلفه (في شرق اليمن يافع): "وانضم إلينا في الرحلة الأستاذ حمزة عمر المفلحي وهو مدرس بمدارس المملكة العربية السعودية بجدة، جاء إلى يافع لزيارة أهله في خلّة، وقد أتى إلى الجُرْبة ليشاركنا في رحلة يافع. وهو خبير بشؤون البلاد اليافعية، فقد قضى بها ردحًا من الزمن واشتغل بالتدريس في الجربة، كما رافق الدَّبّاغ في حركته السياسية التي قام بها في جنوب الجزيرة وذاق الأَمَرَّين، وكان وفيًا لأستاذه؛ فعندما وافاه الأجل بذل الأستاذ حمزة مجهودًا كبيرًا في المحافظة على زوجة الدباغ وأولاده وأعادهم إلى الحجاز مكرمين. والأستاذ حمزة طَلْق المُحَيَّا مشبوب الترحيب، يلقاك كأنه أخ لك من قديم، وعلى الرغم من نحافة جسمه فإنه نشِط سريع الحركة يقفز على الصخور ويجتاز العقاب كالريم".
وقد كان بيته في جده ملتقى حجّاج بيت الله الحرام القادمين من قرى المفلحي والضالع، وكان يساعدهم ويسهّل لهم تأدية مناسك الحج.
عاد إلى الجنوب العربي -آنذاك- مضطرًّا سنة 1963م، واستقر في بلدة خلّة بالمفلحي الأسفل، فأنشأ فيها ناديًا ثقافيًا، وفرقة كشفية، وكان ابنه (محمد) في طليعة الشباب النشطاء في هذه المجالات. وأطلق الأستاذ حمزة حملة لجمع التبرعات مناصرة للقضية الفلسطينية وزار مع فرقته الكشفية مختلف القرى وأكسبه ذلك محبة الناس واحترامهم.
وفي سنة 1964م أُرسِل بالتنسيق مع الضابط السياسي البريطاني (مينل) للتدريس في المدرسة المتوسطة بولاية دَثينة (مديرية مودية بمحافظة أبين حاليًا)، وأسهم في كثير من الأنشطة الاجتماعية هناك، وشجع تعليم الفتاة، وتخرجت على يديه هناك كوكبة من الرجال صاروا قادة في المجتمع بعد ذلك. وكان زميله في التدريس وأقرب أصدقائه إليه هناك الأستاذ علي ناصر محمد الحسني الذي صار رئيسًا لجمهورية اليمن الديمقراطية لاحقًا.
وفي أغسطس من سنة 1967م أسس في بلدة خلّة الحرس الشعبي على نفقته الخاصة من أبناء البلدة، ودمجوا في جيش التحرير التابع للجبهة القومية حينها، وشارك في عدة معارك ضمن الجبهة القومية في الثورة الوطنية ضد الاستعمار البريطاني، وكان الشخصية القوية في المفاوضات مع الإنجليز في معركة (صبر الشعيب) التي دامت يومين.
وفي سنة 1968م عيِّن مديرًا لمدرسة الضالع المتوسطة، وأسس فيها نظامًا تعليميًا حديثًا، وأقام فيها أنشطة تربوية: من تمثيل، ومسرح، ومعارض زراعية، وكان طلاب هذه المدرسة يدخلون في مسابقات ومباريات ينافسون فيها طلاب محافظة عدن.
استشهد الأستاذ حمزة عمر المفلحي مغدورًا به سنة 1392هـ (1972م) بعد اختطافه من النادي الثقافي في خلّة، من قبل عناصر تابعة للنظام الحاكم حينها. رحمه الله وتقبله في الشهداء الأبرار. وله أربعة أبناء (محمد، صالح، عبدالحكيم، رفيق) وابنتان، وكثير من الأحفاد ذكورًا وإناثًا، منهم الطيارون والأطباء والمهندسون والمدرّسون. وهم يقطنون حاليًّا في محافظة عدن وفي خلّة بمحافظة الضالع.
المراجع:
- كتاب: في شرق اليمن يافع لصلاح البكري.
- صحيفة صوت الجنوب عدد: 14- 1964م.
- كتاب: الضالع: شهداء وتضحيات ومناضلين لمؤلفه: محمد عبدالله صالح.
- إفادة خطية من ابن صاحب الترجمة العميد الركن الطيار: محمد حمزة عمر.
- وثائق ومعلومات من شبكة الانترنت.
* مقال منشور في صحيفة عدن 24 العدد 34 الاثنين 2 أبريل 2018م.