الجوع في زمن الكورونا.. أم قصي: كورونا عذب البشرية، وجوع اطفالي يجبرني لمواجهتها

عدن لنج/ نصر الأشول

الحياة قاسية جداً وتحتاج إلى كفاح عنيف ففي بلد تكافح فصائله بالسلاح لأجل البقاء تجد أبناء مدينة عدن المدنيون يواجهون ذلك بصب عرق جباههم في العمل اليومي الشاق لكسب الطعام ومن أجل البقاء على قيد الحياة.

فضلت أم قصي طريق السلام بقية حياة آمنة وسلام لأولادها فاختارت بيع الروائح والبخور العدني المشهور، تقوم بتصنيعه وتجهيزه كلياً في منزلها الصغير الذي استأجرته من أحد سكان المدينة لإيواء أطفالها فيه وتقيهم حرارة أجواء عدن وهجير شمسها.

 

لاتملك أم قصي مرتب حكومي لإعالة أطفالها ولا شاب يكافح لأجلها فقررت هي أن تصبح الأب والأم ولأطفالها فقامت بصنع البخور لبيعه بأسعار رخيصة جداً لا ترتقي لتوفير لقمة عيشهم.

 

في بدايات رحلة البحث عن الذات في بلد تمر عليه قرابة عشرة سنوات كل سنة منها لها ذكرياتها القاتمة،حروب وقتل وتدمير .

 

في اليمن بلاد النزاعات وعدم الاستقرار يتسلل فايروس كورونا من بين دهاليز المدن المدمرة ومن أوساط الركام المكدس بمواقع المباني المهشمة ومنافذ البلد وموانئها البرية والبحرية والجوية المهترئة، إضافة لذكريات الحرب السوداوية وملئ المراكز الصحية بالمتضررين من الحرب التي تدور رحاها بين أطراف النزاع نجد كوفيد19 وجد ضالته في هذه البلد ليتمكن من سكانها.

 

 

ألسيدة أروى أحمد محمد الروشاني إحدى نساء مدينة عدن جنوب اليمن، تبلغ من العمرستة وثلاثون عام..توفي زوجها السيد "ح،ن، م"قبل عامين ونصف عام، وكان يعمل بالأجر اليوم سائق حافلة نقل ركاب، تاركا أم قصي تكابد الحياة وتقاوم مأساتها وأطفالها بمفردها.

 

 

أتجول في الشواطئ:

 

تسرد أم قصي بعض تفاصيل قصتها المأساوية وفداحة الواقع الشرير على المكلومين قائلة: " بعد صناعة أقراص البخور أنطلق من منزلي الواقع في حي العريش بمديرية خور مكسر ويبعد منزلي عن الكورنيش السياحي لساحل أبين مايقارب الكيلو متر، أقطع تلك المسافة مشياً على الأقدام حتى أصل.

عندها أقوم بالتجول على الشاطئ لعرض منتجاتي من البخور وأقوم بإخراجه وإشعال قطعة صغيرة بجوار كل سيارة أمر عليها ليستنشق القاعدون على سياراتهم الرائحة فيقومون بشراء البخور مني، ثم أعود للتجول في المنتزهات والغرف العائلية وإذا أتممت في وقت مبكر أنتقل إلى مديرية أخرى عبر محطة الحافلات ،لأكرر نفس السيناريو إما في الشواطئ أو الأسواق المزدحمة".

 

 

كوفيد19 حرمنا الحياة:

 

طأطأت أم قصي رأسها وهي تشرح لنا وضعها وتغيرت نبرة صوتها الذي تشحب من كثرة المشي على الأقدام وهي تتجول في الأرصفة والشواطئ تبيع بخورها سقطت دمعتان من عيناها وسالت على خديها ليمتصهن نقابها المهترئ تحاول أم قصي مواصلة حديثها إلا أن غصة في حنجرتها كادت أن تخنقها .

فما تبديه دموعها حينها هي الكرامة وعزة النفس البشرية توحي بأنها لا تريد الشكوى لغير رب السماء . مسحت دموعها واستطاعت بعد ذلك التغلب على البكاء لتواصل حديثها

قائلة: "لقد حرمتنا جائحة كورونا لذة الحياة رغم أننا لم نتذوق الحياة السعيدة لاسيما بعد وفاة زوجي لم أتمكن من التجول في الشوارع بسبب الحظر المفروض من قبل الدولة والسواحل فارغة تماماً من الناس فما عدت أجد أحداً يشتري مني بخوري ، فكنت أتعذب بعض الأوقات التي يفكُّ الحظر فيها فأذهب وأتجول ولكنني لا أبيع شيئاً .

فكان عذابي يزداد فوق تعبي في السير على الأقدام ويزداد وجعاً عند سماع أطفالي يطالبونني بالأكل والدواء".

 

يعش أطفال اليمن حالة من البؤس والشقاء، فالبعض لا يجد الدواء، وبعضهم يفتقر للألعاب، وحالات أخرى يبحثون عن الطعام واللباس.

قصي وعدي يحتاج كل واحد منهم ثلاث علب من الحليب المجفف، إضافة للحفاظات وغيرها من مستلزمات" ولا أستطيع توفير حتى ربع الكمية لهم".

 

وهي تصف الجائحة نعتتها أم قصي بأنها "العذاب للبشرية".

"كيف أبيع البخور وأريد من الناس أن تشتريه بينما كورونا يقبض على الأجهزة التنفسية للبشر؟! والمستشفيات تستهلك مئات الأسطوانات من الأكسجين في اليوم. وأنا أتجول بأقراص البخور علّني أجد من يشتريه! "..

توقفت عن الكلام لبرهة ثم عاودت حديثها:"إنها الحاجة التي أجبرتني وجوع أطفالي من يقذف بي خارج المنزل دون الخوف من كورونا لأبحث لهم عن الطعام".

 

إن تحصلت أم قصي على قيمة كمامة تذهب لشرائها لترتديها خشية أن تصاب بالفايروس فمن يعتني بأطفالها حينها ومعظم الأوقات لا تملك قيمتها.

 

 

سوء التغذية:

 

فرض الحجر المنزلي ،والغياب الحكومي التام ،وعدم توفير إحتياجات المواطن في منزله وجدَت أم قصي نفسها في زنزانة الموت البطيء موت الجوع ونحولة الأجساد وشحوبة الوجوه حيث تراجعت صحة أطفالها بسبب الجوع الذي عانوه كون والدتهم في حجر منزلي والمدينة في حالة طوارئ وحظر تجوال فمن يأتيهم بالخبز ؟!

 

مسكن أم قصي وأطفالها، غرفة واحدة ودورة مياه لاغير بلا نوافذ عدا شِباك حديدية حماية من اللصوص فقامت أم قصي بسدها بصفيحة حديدية وبعض الصفائح الكرتونية لستر نفسها وأطفالها تطبخ في ذات الغرفة وتغير لأطفالها الملابس فيها ! بيد أن مالك المنزل الذي تستأجره أم قصي في الآونة الأخيرة يطالبها بالخروج ومغادرة المنزل لتبحث عن منزلا آخر، ولم تجد أم قصي منزلا آخر نظرا لغلاء الإيجارات في عدن.

 

أما "أيلام" فهي تبلغ من العمر ثلاثة عشر سنة وتُعتبر ابنتها البكر تصغرها "أيام" البالغة من العمر ثمان سنوات وتعاني مرض "روماتيزم" حكايتهن للزمان ومطالبهن من السماء للحياة هي رغبتهن بأن يكونا كباقي الفتيات ، ويذهبن للمدرسة ولديهن مصروفهن المالي لشراء السندويتش ككل الطلاب واقتناء ملابسهن الدراسية والحقائب المدرسية .

 

بيد أن قصي البالغ من العمر ثلاث سنوات ونصف، وعدي البالغ من العمر عامين ونصف، ذوي الوجوه الملائكية البريئة لايرغبون غير رؤية السيارات المارة بالحي واقتناء الألعاب وملاحقة القطط الصغيرة حسب ما نراه في سلوكهم فهم لايفقهون شيئاً ولا يعلمون ماهو قدرهم المحتوم لهم بعد كبر سنهم في هذا البلد المليء بالنكبات.

 

 

تعاود أم قصي حديثها وتشرح بعض معاناتها لنا والبؤس والحزن والحاجة يسيطرنَ عليها قائلة" في حياتنا لا نعرف الحياة الطبيعية مثل باقي الأسر والشقاء أمراً محتوماً علينا وكأن السماء قد كتبت لنا هذه الأقدار !

وكأن معاناتنا تقول أنتم من يستحق أن يعش هذه الحياة بكدرها و مرها وألمها !

لا أستطيع توفير الغذاء الضروري واللازم لأطفالي فالدواء صار أكبر معضلة لي كون الغذاء قد أستطيع أن أستلفه من بقالات الحي، أما الدواء فيحتاج للقاء طبيب ودفع فاتورة مقابله لأخرج بروشتةٍ مليئةٍ بالأدوية وأذهب للصيدلية لشرائها نقداً وأنا امرأة فقيرة بلا سند ولا معيل"

 

حكاية رمضان والألم:

 

تتحدث السيدة الحزينة التي لم يصل سنها إلى الأربعين عاماً لكن الكلف والتجاعيد والشيخوخة واضحة على ملامح وجهها جراء ما تعانيه..".

 

أتى شهر رمضان وعاد الفايروس وانتشر بقوة نسمع عن حالات الوفيات هنا وهناك وأنا سيدة لا حول لي ولا قوة ولا أملك من المهارات ما يمكنني من العمل في السوق غير مهارة تصنيع البخور والروائح ومتطلبات شهر رمضان كبيرة جداً لا يقوى حتى الرجال على توفيرها بالكامل لأسرهم فكيف سأستطيع أنا توفيرها من هذه الأقراص الصغيرة؟! "" تتحدث وهي تشير إلى أقراص البخور أمامها"" كورونا فرض حصاره علينا في المنازل وفي رمضان أقل استهلاكاً للبخور عكس باقي المواسم كالأعياد والمناسبات الأخرى.

فلم أستطع توفير الغذاء وكل ما يأكله أطفالي هو التمر الذي نستمده من فاعلي الخير، وما يأتيني به جيراننا وأهالي الحي بعض الأحيان".

 

إقتحمت الحميات منزلها: 

 

يقتحم المرض نافذة حجرة أم قصي وأطفالها ويعبث بسكينتهم القهرية وهم نائمين أصابتهم دوخة الجوع ورمت كل واحد بحدة على قاع تلك الحجرة الصغيرة.

" أصابتني أمراض الحميات المنتشرة والتي قد تكون جزء من فايروس كورونا ثم مرض جميع أطفالي "قصي وعدي، و أيام، و أكبرهم إيلام" ولم نجد قيمة حبة مهدئ للصداع،

لم أتمكن كذلك من زيارة المستشفى فأنا مريضة ومن سيهتم بأطفالي ويذهب بهم للطبيب كذلك لا أملك من المال غير عشرة آلاف ريال كنت أحتفظ بها لشراء مكونات البخور لأقوم بتصنيعه آملة بأن يمنحني الله رزقه وأبيعهنّ لتوفير قطع الحلوى لأطفالي خصوصاً أن عيد الفطر قد اقترب .

قدمتها لأحد أبناء الحي ليقوم بشراء علاجات الحمى والحرارة لأطفالي لتهدأتهم بينما أنا استمريت في مقاومة المرض حتى نزلت رحمة السماء، وتماثلت بعد مرور عدة أيام من عيد الفطر.

 

 

خمسة وعشرون ألف ريال يمني أجرة المنزل الذي تقطنه أم قصي وكل ما تبيعه من البخور في أفضل الأيام لا يتجاوز عشرة آلاف ريال يمني التي تكون فائدة المبيعات فيها لا تتجاوز ثلاثة آلاف ريال.. " لا أعلم هل سأوفر أجرة المنزل؟! أم طعام أطفالي ؟!

أم الدواء؟! 

الحياة شاقة جداً في بلد كهذه البلد التي لا دور للدولة فيها"

 

ما تحتاجه أم قصي لفكّ ضائقتها المالية المتلازمة ممثلة باحتياجات الحياة لها وأطفالها من غذاء وشراب ولباس وسكن هو لفتة بنصف عين الرحمة والإنسانية للمنظمات الإنسانية وحقوق المرأة والطفل والدول المانحة.

كما جاء في معرض قولها:" لا أريد القليل من المال مايكفيني لشهر أو شهرين بعدها ينفذ أريد من يدعمني في بناء مشروع أستطيع تسيير حياتي وأطفالي منه . أريد من يمنحني سكناً آمناً وضمانة صحية لأطفالي. أريد تعليمهم، أريد من يمولني في بناء مشروع إيرادي لي

كبناء كشك لبيع البخور أو معدات وكميات من المواد والمكونات التي يصنع منها البخور والروائح"..

 

"أناشد كل المنظمات الإنسانية وحقوق المرأة والطفل والهلال الأحمر الإماراتي والكويتي ومركز سلمان أناشد كل أصحاب القلوب الرحيمة للنظر لوضعنا وانتشالنا من هذه الحالة المزرية التي نمر بها أنا وأولادي وبناتي" .

 

 

[[ختام]]

 

ما إن وجدوا على هذه الحياة تتعرضهم الآلام ويعزف الحزن موسيقى الوجع بأوتار أصوات أنين أطفال أم قصي، وتنهش الأمراض أجسادهم، فلا غذاء للوقاية ولا علاج للشفاء وكل ما تتشبث به الأم المكلومة هو الأمل بقدرة رب السماء داعية الله أن يجنبها وأطفالها عودة الجائحة، فأجسادهم النحيلة لم تعد قادرة على تحمل الجوع والمرض.

 

* تم تمويل ونشر هذا التقرير بدعم من JHR/JDH - صحفيون من أجل حقوق الإنسان و الشؤون العالمية في كندا.