قراءة في رواية تلك العتمة الطاهرة

عدن لنج/خاص _الكاتب:عيدروس الدياني
 
" لا داعي لأن تحكي  لي يابني، إني أعلم  مقدار مايستطيعه البشر، إذا قرروا أن يؤذوا بشرا آخرين " 
رواية سجن تزمامارت التي يرويها أحد الناجين بعد أن مكث فيه عشرين عاما.
في العنبر ب كانوا  23  معتقلا، في حفرة كما يصفها الراوي، إذ لا يتسرب من كوة المعتقل سوى الهواء أما الضوء فلا يرونه، ولا يستطيع أحدهم أن يقف بطوله لانخفاض السقف هناك.
     ينادون بأرقامهم من ١ إلى  23 ، لكل منهم طباع وحكايات، ويشتركون جميعا في قصة دخولهم المعتقل حيث أنهم كانوا جنودا، أمرهم قادتهم بإطلاق النار في مناورة بالسلاح الحي، ليتبين لهم بعد ذلك أنها كانت محاولة إنقلابية، يذهب قادتهم سريعا إلى الدار الآخرة، بينما يظل الجنود يعانون الجحيم حتى آخر أنفاسهم .
أحدهم أمسك بندول الزمن، فكان يخبرهم بالساعة واليوم والشهر لخمسة عشر عاما، ثم ضعف ومرض واختلط عليه الزمان فأمسك الراوي مكانه مناوبة مع آخر يعاني أمراضا كثيرة قال أنها بسبب مومس سحرته عندما رفض أن يتزوجها قبل دخوله المعتقل .
الراوي كان يهرب بنفسه للخيال، لاختلاق القصص وهو ماكان يجيده والده الذي كان يعمل راويا للملك، والده الذي تبرأ منه حين علم بمشاركته في الإنقلاب فتبرأ منه أمام الملأ وطلب صفح الملك. 
"كان والدي يملك حس الفكاهة ، ولكنه لم يكن يضحكنا" هذا ما قاله عن أبيه الذي طردته أمه من بيتها وأولادها وهجرته لما عرف عنه من عدم الاهتمام بهم إضافة لمجونه وانصرافه خلف ملذاته.
كان طعامهم في السجن الخبز اليابس والقهوة فقط، ضمرت أجسامهم ومرض الكثير وماتوا لأسباب عديدة، عقارب، تسمم، انتحار، حمى، بل واحدهم مات محصورا.
أحدهم الأستاذ كما يسميه كان قارئا للقرآن، يصدح بصوته في المعتقل ، ويصلي على موتاهم، وهو الشيء الوحيد الذي بسببه  يرون  الشمس، فقط حين يموت أحدهم.
بعد خمسة عشر عاما يسأل الأستاذ الراوي كيف يستطيع أن يرى نفسه، فيجيبه بأن يتلمس بيديه ، فيجيبه الأستاذ أن يديه فقدت الإحساس بالأشياء وتلمسها. وبعد أيام يخبره أنه مريض وأنه يصارع سكرات الموت ، ثم يسود صمت كئيب المعتقل بعد أن ينقطع صوت القرآن عنه .
كان له جار  يقول له احك لي قصة وإلا أمُت. هكذا ظن أن رواية القصص ستنجيه من الموت، ولكن الراوي مرض وغاب عن وعيه لأيام، فيصحو بعد ذلك ليجد رفيقه قد مات، ودون أن يسمعه قصته التي وعده إياها.
يحكي الراوي أنه يهرب من جسده ومن عذاباته بقطع الأمل وبالعيش في روحانية تعلقه بالله، ولم يفل عزمه ذلك إلا ألم الأسنان الذي كان يفتك به، وكيف اضطر لخلع بعض أسنانه ليتخلص من ألمها .
بعد عشرين عاما يعاينه طبيب الأسنان، فيرى وجها غريبا ينظر إليه يخيفه، وجه لا يعرفه من قبل، كان ذلك هو وجهه الذي صدمه بمرآة طبيب الأسنان.
الناجون تصدق عليهم مقولة النجاة بأعجوبة، فقد كان الموت ماكثا هناك يخطف المعتقلين واحدا واحدا، ولكنه كان أمنية عاجلة تمنوها ولم يظفروا بها.
قال لأحد سجانيه ذات مرة، أنه يعاني ألما بعموده الفقري، فإذا اشتد علي اقتلوني، قالوا لن تنال ذلك، في المعتقل لا نلبي الطلبات حتى لو كان الموت هو الذي تريده.  
الرواية جميلة السبك، سلسة ، ورغم أحداثها الصادمة، لكنها تبين الكثير من قسوة البشر وقدرتهم على الإيذاء، و تلك الحياة الروحية التي عاشها الراوي، فكانت هي التي تنقذه من عذاباته، رغم أنه قطع الأمل بالنور بالحياة بالناس، وكانت حياته خلوة . لا يفصله عنها سوى إزعاج جاره الحسود عشار  " نعم فحتى  في الجحيم كان هناك حسود " 
             حين تقرأ في غلافها الأخير ، أن أحداثها واقعية وقد سردها أحد الناجين من المعتقل تصاب بالصدمة، وتستذكر قول الأم لولدها الراوي حين قابلها :"  لاداعي لأن تحكي  لي يابني، إني أعلم  مقدار مايستطيعه البشر، إذا قرروا أن يؤذوا بشرا آخرين" 
رواية  " تلك العتمة الباهرة "
للكاتب المغربي  الطاهر بنجلون..