عمرو البِيض: افتعال أزمات في الجنوب لتعطيل مواجهة الحوثي
نبه عمرو البِيض، الممثل الخاص لرئيس المجلس الانتقالي الجنوبي للشؤون الخارجية، إلى أنه يُطلب من الجمي...
عرض في مهرجان برلين السينمائي الأخير فيلمان يتناولان موضوع “الإسلام السياسي” المثير للجدل، أولهما فيلم “أوراي” Oray الذي أخرجه المخرج التركي المولود والمقيم في ألمانيا، محمد عاطف بويوكاتاليا، وهو فيلمه الأول، وفيلم “وداعا أيها الليل” Farewell to the Night للمخرج الفرنسي المعروف أندريه تشينيه.
الفيلم الأول يدور في أوساط مجموعة من الشباب المسلمين من أبناء الجيل الثاني الذين ولدوا لآباء من المهاجرين، ومعظمهم من العرب والأتراك، أما بطل الفيلم “أوراي” (يقوم بدوره ببراعة زيهون ديميروف) فهو يقول عن نفسه إنه “غجري مقدوني من أصول عثمانية”.
ويبدأ الفيلم بلقطة متوسطة لهذا الشاب وهو يخطب في مجموعة من الشباب المسلمين داخل مسجد لا نراهم، ويروي لهم كيف أنه كان لصا خارجا عن القانون ثم اهتدى داخل السجن إلى “نور الإسلام”، وأصبح صالحا لا يرى أمامه سوى أحد الخيارين: “الإسلام أو الكفر، الجنة أو النار”.
تقسيم العالم على هذا النحو البسيط اليقيني لدى بطلنا الشاب، قد يوحي للمتفرج بأنه سيشاهد فيلما موضوعه التطرف الديني والإرهاب، ولكن سرعان ما يكشف الفيلم عن هدفه الحقيقي، وهو ليس إدانة التطرف، بل تبرئة الإسلام والشباب المسلمين من التطرف والدعوات المتشددة، ولكن كيف؟
ورطة الطلاق
أوراي العاطل عن العمل متزوج من فتاة شابة شديدة الجمال، تحبه ويحبها، أي أن العلاقة بينهما علاقة عشق كما يمكننا أن نرى من خلال مشاهد الحب التي تدور بينهما، لكنه يسلك سلوكا معيبا معها ذات يوم ثم يحاول إصلاح خطئه فتغلق هي الهاتف في وجهه عدة مرات وترفض أن ترد عليه مما يدفعه إلى الغضب الشديد.
وتحت تأثير الانفعال يلقي بيمين الطلاق ثلاث مرات على الطريقة التركية (طلاق.. طلاق.. طلاق) في رسالة هاتفية مسجلة، ولكن سرعان ما يشعر بأنه تسرع وأخطأ فيترك لها رسالة أخرى يطلب فيها ألاّ تستمع إلى رسالته السابقة، ثم يذهب إلى شيخ المسجد في المدينة الألمانية الصغيرة التي يقيم فيها يطلب رأيه، فيفتيه الشيخ بأن الشرع يقضي بضرورة الابتعاد عن زوجته لمدة ثلاثة أشهر وألاّ يقربها بعد أن أصبحت محرمة عليه شرعا.
"أوراي" ينتصر لفكرة العيش داخل "الغيتو"، ليكون الانغلاق بمثابة مفتاح النجاة من شرور "الآخر" غير المسلم
تعارض الزوجة فكرة ابتعاد زوجها عنها ظنا منها أن المسألة “صغيرة” وشفوية ولا تستحق كل هذا العناء، لكنه يصر على الرحيل فقد أصبح مسلما ملتزما بالشريعة، ولا بد من احترام الشرع.
وينتقل أوراي إلى مدينة كولن حيث تدور معظم الأحداث، هناك ينتظم في عمل في سوق المدينة الشعبي، ويستأجر مسكنا لدى شيخ المسجد الشاب “بلال”، ويقيم علاقة مع الكثير من الشباب المسلمين، ويلتقط شابا يافعا كان يبيع المخدرات في السوق، يعرف أنه مثله من الغجر، لكنه من كوسوفو، يصر على إرشاده إلى الطريق القويم حتى بعد أن يسرق بعض المال من صندوق التبرعات في المسجد فيرغمه على إعادته.
تأتي زوجته لزيارته في مقره الجديد، يطلب منها الانتقال للإقامة معه بعد أن انتعشت أحواله، لكنها ترفض بسبب ارتباطها بالعمل هناك، ثم تغادر.
هناك مشهد يصور استئناف علاقتهما الجسدية رغم التحريم، وبعد شعوره بالذنب يذهب لكي يستفتي شيخ المسجد بلال الذي يقول له إن إلقاء يمين الطلاق ثلاث مرات معناه الطلاق الفعلي، هنا يبدو أن مخرج الفيلم لا يعرف الفرق بين الطلاق والطلاق البائن، ولا بين الطلاق الانفعالي والطلاق الفعلي في حضور شهود وشيخ.
إذا افترضنا أن الفيلم ينطلق من وجهة نظر “ليبرالية” تنتقد مثل هذا القيد في الإسلام الذي يجعل إلقاء يمين الطلاق هاتفيا في رسالة مسجلة في لحظة غضب، أمرا يستوجب الطلاق البائن، خاصة وأن بطلنا عندما يتشاور مع صديق له، يقول له صديقه هذا إنه يحب زوجته وهي تحبه و”ليس من المعقول أن يفرق الله بين حبيبين”، لكن الفيلم ينتصر في النهاية لهذا القيد تحديدا، ويجعل بطله الذي يتمسك به، رغم أنه مبني على فتوى خاطئة، يندمج تماما وسط جماعة الشباب المسلمين، خاصة بعد أن يقول له بلال إن العامل الوحيد الذي جعلهم آمنين في المجتمع الألماني هو وحدتهم كمسلمين، أي تماسكهم بالبقاء معا في كل الظروف.
صورة مجموعة الشباب المسلمين الذين يحتفلون معا بذبح خروف ثم تناول الطعام في شكل جماعي في عيد الأضحى، والميل إلى المداعبة والمزاح والضحك، والارتباط التام بالتقاليد الإسلامية، هي صورة إيجابية مقصودة، لنفي فكرة التطرف عن الشباب المتدينين في الغرب وفي ألمانيا بوجه خاص. الفيلم إذن ينطلق من بدايات توحي بالنقد ليصل إلى الإقرار بأن الهوية لا ترتبط سوى بالدين، وأن العيش داخل “الغيتو” ورفض الاندماج هما مفتاح النجاة من شرور “الآخر” غير المسلم، أي الانعزال عن المجتمع وممارسة أعمال طفيلية (لاحظ أن بطلنا رغم التزامه الديني لا يمانع من مضاجعة زوجته التي طلقها، ومن المتاجرة في أشياء مشكوك في كونها مسروقة، والكثير ممن اهتدوا إلى طريق الصلاح كانوا في السابق من الخارجين على القانون، أي أن الدين هو الذي جعلهم يتوبون عن الإجرام، وليس احترام القانون) وكلها تناقضات في بنية الفيلم تربك المشاهدين بمن في ذلك المطلعون على الثقافة الإسلامية.
ويصبح لا شك في أن الفيلم مصنوع وموجه بغرض تجميل صورة الشباب المسلمين في الغرب ونفي أي صلة لهم بالتطرف ومن ثم الإرهاب، ولكنه في الوقت نفسه يسقط في تصوير الكثير من السلوكيات التي تتناقض مع الرغبة في تجميل هذه الصورة (لا شك أن مشهد ذبح الخروف يثير التقزز والقشعريرة لدى المشاهد الأوروبي).
ورغم ملاحظاتنا الخاصة بالمضمون لا شك في براعة الإخراج ونجاح المخرج في عمله الأول وهو يدفع الحركة ويحافظ على الإيقاع ويحقق انتقالات سلسة بين المشاهد المختلفة، ويجيد إدارة الممثلين ومعظمهم من غير المحترفين، كذلك التصوير البديع للحركة الطبيعية في المناظر الخارجية ومزج الممثلين وسط جموع الناس في الشوارع والأسواق، واقتناص الكثير من اللقطات التي تبرز روح المكان، وتؤكد واقعية الصورة، لذلك استحق الفيلم جائزة العمل الأول في مهرجان برلين.
وداعا أيها الليل
رغم غزارة إنتاجه السينمائي لم يترك المخرج الفرنسي أندريه تشينيه (75 سنة) بصمة خاصة مميزة على خريطة السينما الفرنسية، فظل دائما في منتصف الطريق، فهو يميل إلى طرق موضوعات متعددة تتباين في موضوعاتها، ورغم أسلوبه السهل، إلاّ أن أفلامه تخلو من الجرأة الفنية والطموح.
يعتمد تشينيه في سيناريو “وداعا أيها الليل” على فكرة من تأليف عامر علوان (وهو ممثل وكاتب من أصل عراقي) تدور حول العلاقة بين جيلين مختلفين، جيل يرتبط بصورة فرنسا التقليدية ولدت وعاشت العصر الاستعماري في الجزائر، وجيل جديد شاب مشوش يبحث عن هويته.. كل منهما لا يمكنه أن يفهم الآخر.
هناك من ناحية الجدة “موريل” (كاترين دينيف) صاحبة مزرعة في الريف الفرنسي ومربية ومدربة خيول تتمتع بثراء واضح وهي ولدت وعاشت لفترة في الجزائر، وهناك من ناحية أخرى حفيدها “ألكس” (ماسي موت كلاين) الذي يبدأ الفيلم وقد أصبح متورطا في نشاطات مشبوهة لجماعة جهادية، بل ويستعد أيضا للسفر إلى سوريا للالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
الفيلم التركي لا يدين التطرف، بل يسعى لتبرئة الإسلام والشباب المسلمين من التطرف والدعوات المتشددة، ولكن كيف؟
تدور أحداث الفيلم خلال بضعة أيام من ربيع عام 2015، وتظهر تواريخ عامة على الشاشة تخبرنا بأننا سنشهد ما وقع في “اليوم الأول من ربيع 2015” ثم اليوم الثاني والثالث، وهكذا دون أن تكون هناك ضرورة أو مغزى من هذا التتابع الزمني.
والفيلم يقول لنا -دون إقناع- إن ألكس ترك ديانته التي ولد عليها، واعتنق الإسلام بتأثير علاقته العاطفية بفتاة مسلمة عربية هي “ليلي” (علية عمارة) تأتي بين وقت وآخر إلى ضيعة موريل لتساعدها في أعمال التنظيف ورعاية الحيوانات، لكنها تعمل أيضا كممرضة في المستشفى المحلي بالمدينة القريبة. ولكنه لم يتعمق في فهم الإسلام، بل أغوته فكرة “الجهاد”، فأصبح كل همه تدبير مبلغ من المال ولو عن طريق التحايل وتزوير الشيكات الخاصة بجدته والسرقة من حسابها المصرفي، غرضه من هذا شراء أسلحة تتدرب عليها المجموعة قبل السفر، موهما موريل بأنه بصدد الذهاب إلى كندا لاستكمال دراسته.
المبرر الذي يقدمه الفيلم لسلوك ألكس الذي يميل إلى العنف والغضب والاحتجاج، هو مصرع أمه في حادث سيارة منذ وقت قريب واعتبر والده السبب في وقوعه، ثم غياب الأب، وبالتالي انغمس ألكس في البحث عن بديل يملأ حياته الفارغة حيث يقيم في المزرعة مع جدته المشغولة عنه باهتمامها بالخيول، وهو يستمد معرفته بالعالم الجديد الذي يقبل عليه من خلال الذين يقابلهم ويدخل في حوارات معهم عبر شبكة الإنترنت، وعندما نراه وهو يتوضأ ليصلي نرى أنه لا يعرف أصول الوضوء ولا الصلاة!
من هذه البداية يصبح هم موريل بعد أن تدرك التحول الذي وقع في شخصية ألكس، أن تنقذه من هذه الورطة، لكنها لا تريد إبلاغ السلطات عنه، فتلجأ إلى شاب مغربي مسلم كان منضما لإحدى هذه الجماعات الجهادية وقضى فترة في السجن قبل أن يطلق سراحه، وهو يرغب الآن في العودة للاندماج في المجتمع بعد أن أدرك أنه كان مضللا.
تأتي موريل بهذا الشاب إلى المزرعة بطريقة تشي بالسذاجة لكي يلقن ألكس درسا عما ينتظره هناك مع داعش، بعد أن تكون قد تحايلت وحبست ألكس داخل غرفة ذات بوابة حديدية في المزرعة لا يستطيع أن يغادرها، لكنه ينجح في الإفلات ليصبح مصيره الاعتقال مع فتاته ليلي ورفيقهما الآخر الجهادي بلال.
الغموض والتبريرات الدرامية السطحية وتصوير الجماعة الجهادية كأشخاص عاطلين يعيشون عالة على المجتمع عاجزين عن الاندماج فيه، يميلون إلى العنف من دون مبرر، جميعهم من الملونين الأفارقة أو العرب، قد يساهم في ترسيخ الصورة النمطية السائدة في الإعلام الغربي عن المسلم.
ورغم أن الفيلم يحاول موازنة التطرف بتقديم نموذج آخر لرجل مسلم (من جيل أكبر) اسمه “يوسف” هو الذي يدير المزرعة لحساب مدام موريل، يدين المتطرفين الجهاديين ويؤكد على أن الإسلام بريء منهم وأنهم لا يفهمون الإسلام الصحيح… إلخ، ولكن ما يردده من عبارات نمطية مكررة لن يشفي غليل المتفرج الغربي غالبا، ولن يحقق التوازن المقصود للفيلم.
يميل تشينيه في السيناريو الذي اشترك في كتابته مع اثنين آخرين، إلى عقد مقارنات بين التزمت الإسلامي في الحياة، والمغالاة “العلمانية” في المرح واحتساء الخمر والرقص، وكأنه يوجه رسالة للجمهور الغربي مؤداها أن هؤلاء الذين يرفضون الجنس قبل الزواج (كما تفعل ليلي، ثم تستر رأسها بالحجاب الإسلامي داخل المستشفى وترفض لمس أجساد المرضى من الرجال، وتفكر في الموت بشكل رومانسي كما نرى في حديث يدور بينها وبين ألكس) هم نقيض للغربيين الذين يعرفون كيف يحتفلون بالحياة ويستمتعون بها، وهي صورة شديدة المباشرة والسذاجة.
وفي الفيلم بعض اللمسات الفنية في التصوير الجيد للريف، وبعض الإشارات الخاصة التي تضفي بعض الرموز الشاعرية على الفيلم، كما في بداية الفيلم عندما يخترق خنزير بري المزرعة ويقف ليحدق في موريل التي تتطلع إليه في فزع تريد أن تعرف كيف جاء هذا الكائن الغريب المخيف إليها وكأنه نذير سوء، يذكرنا هذا المشهد بمشهد ظهور الوعل الكبير الغريب أمام الملكة إليزابيث في فيلم “الملكة”، ولكن في سياق آخر.
أداء كاترين دينيف في تاسع أفلامها مع تشينيه، أداء روتيني في دور اعتادت عليه في أفلامها الأخيرة، لا يضيف شيئا إليها ولا إلى الفيلم نفسه، والفيلم بوجه عام يفتقد إلى حرارة الموضوع وعمق الرؤية.
ويظل الفيلم الغربي الأفضل الذي عالج هذه القضية هو الفيلم الدنماركي “ليلى م” (Layla M (2016 للمخرجة ميكي دو يونغ.