عدن لنج / إرم نيوز
هذا ليس كلامًا نظرياً دعائيًا لخدمة حملة مقاومة المشروع الإيراني أو بالأصح «الشيعي الأصولي الطائفي»، إنها حقائق يجدها أي باحث في الشؤون الإيرانية والأصولية الشيعية المتطرفة، في أرشيف الحكومة الإيرانية وأوراق الحركات التي تدور في فلكها.
جمال خاشقجي
لماذا فشلت مفاوضات الكويت؟ ولماذا لا ينبغي التفاؤل بأن «يجنح الحوثيون للسلم» عندما تعقد الجولة الثانية منها؟ ولماذا غامر حسن نصرالله بسمعته وبحزبه وبكل مكتسباته في لبنان، وألقى برجاله في أتون الصراع السوري؟ ولماذا لم ولن يستمع قادة حزب «الدعوة» الحاكم الحقيقي في العراق إلى مواطنيهم الشيعة وهم يدعونهم إلى وقف الفساد والطائفية، بل زجوا بهم في مزيد من الطائفية والفتن؟ ولماذا لم يستجب قادة «الوفاق» في البحرين لعروض الشراكة المغرية التي قدمها لهم ولي العهد هناك، وهو يحاورهم غير مرة، ولكنهم «استغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا»؟
الإجابة بسيطة، لأنهم أعضاء في «التنظيم الدولي الإيراني»، يسعون بجهد ودأب شديدين، في مشروع أصولي طائفي، لمد نفوذ «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» إلى خارج حدود إيران السياسية، التي لا يرونها دولة ذات حدود محكومة بالشرعية الدولية، بل شيئاً أشبه بنظام أممي، أو كأنها الخلافة الإسلامية (السنّية)، ولكن من دون تعدديتها، والتي، حتى عندما ضعف نفوذها وتفتت دولتها إلى ممالك مستقلة، ظل المسلمون من مرو حتى القاهرة يدعون لخليفة لا يحكمهم، ولكن الولي الفقيه يأمر ويحكم من طهران، ويوجه من خلال عشرات المؤسسات، ويجتمع مع مندوبيه وممثليه بالدول المجاورة، والذين أقسموا له يمين الطاعة في المنشط والمكره، وباتوا لا يخفون ولاءهم وتبعيتهم المباشرة له، وإيمانهم بأنه «ولي أمر المسلمين» في السياسة قبل الفقه، بأمره يعلنون الحرب، وبعد مشورته يقبلون بالسلم، غاضين الطرف عن مصلحة أوطانهم، فهم لا يرون في البحرين أو لبنان أو سورية أو العراق وطناً، وإنما يعيشون في ظل «ولاية» لا حدود جغرافية لها، وأن هذه الأوطان ما هي إلا مرحلة عابرة حتى يأتي ذلك اليوم الموعود، الذي يسود فيه حكم ممثل الإمام الغائب الولي الفقيه.
هذا ليس كلاماً نظرياً دعائياً لخدمة حملة مقاومة المشروع الإيراني أو بالأصح «الشيعي الأصولي الطائفي»، إنها حقائق يجدها أي باحث في الشؤون الإيرانية والأصولية الشيعية المتطرفة، في أرشيف الحكومة الإيرانية وأوراق الحركات التي تدور في فلكها.
إن حصر ذلك المشروع في «إيران» من أكبر الأخطاء السائدة، فهو ليس مشروعاً إيرانياً فارسياً، وإن كانت إيران هي المركز والقائد فيه، إنه أكبر من ذلك وأوسع، فهو مشروع طائفي أصولي صرف ومحكم، وتنسج مؤامراته منذ عشرات السنين، وتاه عنا الانشغال به ونحن نتوهم مشاريع أصولية سنّية من حولنا، أو تعالياً كي لا نبدو طائفيين. هذه المقالة سيصفها الإعلام الطائفي الشيعي بأنها طائفية بامتياز، ولكن هناك عشرات الكتب والمقالات لباحثين غربيين في الأصولية الشيعية، ولم يصفهم أحد بأنهم طائفيون، ولكن الباحث العربي، في ظل الاحتقان السائد، سيُتَّهم فوراً بذلك، ما يجعله يستنكف الحديث فيه والاهتمام به، على رغم حاجته وقومه أكثر إلى مثل هذه الدراسات والطرح، فهو المهدد بالمشروع الطائفي الشيعي، إسلامياً كان أم قومياً، بل إن العلماني العربي، الذي ما فتئ يكتب ويحذر، بل حتى ويبالغ في التخويف من الإسلام الأصولي السني، حري به أن يخشى أكثر الأصولية الشيعية السائدة اليوم، ذلك أنها مغرقة أكثر في الخرافة وموغلة في الثيوقراطية، التي لا يريدها أن تحكمه، فمرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي يحكم فعلياً ووفق الدستور الإيراني، باسم إمام غائب منذ مئات السنين، بل يقول أتباعه إنه يلهمه ويوجهه في شكل مباشر في اتخاذ أهم القرارات، وما من سياسي أصولي سني معتبر يزعم شيئاً كهذا.
لقد كانت هناك يوماً حركة إحيائية إصلاحية شيعية موازية للحركة السنية ومتأثرة بها، اجتهدت في التوفيق بين إسلامها الشيعي والحداثة، كان من أبرز وجوهها محمد باقر الصدر، صاحب كتابي «إسلامنا» و»اقتصادنا»، اللذين انتشرا حتى بين المثقفين الإسلاميين في الستينات، لطرحه المعتدل غير المذهبي، ولعل آخرهم محمد حسين فضل الله، الذي رحل قبل سنوات قليلة، وفي إيران نفسها سبق الخميني مناضلون معتدلون، أمثال الراحل مهدي بازركان وإبراهيم يزدي المعتقل حالياً، وغيرهما. وقد تأثروا بحركة الإحياء السنية، وشاركوا في الثورة، ولكنهم تواروا هم وأفكارهم باحتكار الأصولية الخمينية المشهد الإيراني طوال العقود الثلاثة الأخيرة، لتفرض نفوذها على العقل الشيعي المعاصر بالقوة والمال والإقصاء.
ومثلما أن لنا رؤى نهضوية سميناها «رؤية السعودية 2030» ومثلها في دولة الإمارات، وقطر، وتركيا 2023، فللإيرانيين خطتهم، وقد سبقونا بها، واسمها «الاستراتيجية الإيرانية العشرينية 2005 – 2025»، لتحويل إيران إلى «قوة دولية ومصدر إلهام للعالم الإسلامي»، ونقل بعض تفاصيلها الباحث الدكتور علي باكير، ونشرها ضمن أبحاث مؤتمر عقده مركز أمية بإسطنبول قبل أعوام ثلاثة، أهمها: أن تكون إيران «نواة مركزية لهيمنة تعددية في منطقة جنوب غربي آسيا» – هكذا سموا عالمنا – إذ تشمل كل دول الجزيرة العربية والأردن والعراق وسورية ولبنان، وأن تكون إيران هي المركز «بالنظر إلى قوتها وقدراتها الوطنية ومكانتها الجغرافية السياسية والاستراتيجية الاقتصادية ودورها الاتصالي، وتلعب دور قيادة التنظيم السياسي والاقتصادي والأمني للمنطقة».
ولكنها، وببراغماتية شديدة، «لن تسعى إلى المواجهة مع قوى الهيمنة الخارجية إلا في الساحات التي توجد فيها مصالح متعارضة بينها»، كما شرحها محسن رضائي، وهو من أركان الثورة، وكان رئيساً لـ «الحرس الثوري»، ما يفسر ما يجري اليوم من تحييد، بل حتى اصطفاف قوى عظمى يفترض أنها غير صديقة لها وحليفة لخصومها، كالولايات المتحدة، التي تقاتل مباشرة معهم في العراق الآن، أو مهدت لهم الأرض في العراق ليتمددوا عليه طولاً وعرضاً وهي تنظر، ورحم الله الأمير سعود الفيصل، الذي قال للأميركيين يوماً: «لقد ناضلنا معاً لحفظ العراق من السيطرة الإيرانية، وها أنتم قدمتموه لهم على طبق من ذهب».
ما سبق يجيب أكثر عن الأسئلة التي افتتحت بها المقالة، فبفهم واستيعاب الاستراتيجية الإيرانية العشرينية، يمكن للسعودية، التي تقود مواجهة المشروع الأصولي الشيعي المتطرف، أن تعيد صياغة حقيقة الصراع، وتدفع المتحالفين معها والمترددين إلى الموقف ذاته، حينها لن نرى حوثيين، ولا «حزب الله»، ولا أزمة يمنية وأخرى سورية وثالثة عراقية يمكن أن تعالج إحداها بمعزل عن الأخرى، وإنما مشروع استراتيجي واحد ومتكامل يهدد كل مقوماتنا الحضارية والسياسية، ولا يتفق مع رؤيتنا للمستقبل، بل إنه خطر عليها، بالتالي فإنه يستلزم لمواجهته ودحره مشروعاً واحداً متكاملاً نتفق عليه ونتحد فيه ونتحمل غرمه قبل أن نطلب غنمه.